الصفحة الرئيسية / نصوص / المكتبة / ارتقاء الشعر وولادته سليماً بين “تحتانيات” و”كورتاج”

ارتقاء الشعر وولادته سليماً بين “تحتانيات” و”كورتاج”

.نسرين طرابلسي
 

للأمانة أنا لا أعرف بالضبط كيف أكتب عن الشعر من دون أن أظلمه. فأنا لا أريد كتابة مقال نقدي يبدأ بقول لأحد النقاد وينتهي بمقتطف من أحد الفلاسفة. فما سأكتبه انطباع يستمد قيمته من النصوص ذاتها موضوع الكتابة. فعلى طرفي شهر واحد قرأت كتابين مثيرين للغيرة والدهشة طويلة الأمد، ومستفزين لأدوات النقد والكتابة ولشهوة الإشهار والتعريف، لكاتبين سوريين جداً، أحدهما قادني للآخر. فادي عزام صاحب النص الأكثر شهرة، “إنها دمشق يا أولاد القحبة”، و”تحتانيات” النصوص التي لم أستطع المرور عليها مرور القراء الكرام. وفادي ظل يكتب عن الديوان الشعري “كورتاج” لكاتبه الطبيب إياد شاهين، حتى ظننت أنه سيورثه!! فأثار في الفضول لمعرفة المزيد.

مهمة ليست صعبة ولكنها شبه مستحيلة. أن تعرف ما الذي يبهر شاعراً بعمل شاعر آخر متجاوزا عداوة الكار ومطبات الأنا. خاصة عندما يكون لكل منهما أسلوباً مختلفاً عن الآخر. بل تكاد غزارة وتدفق لغة وأفكار وجرأة ومباشرة وطرق فادي عزام الطويلة الملتوية المتاهة رغم الإفصاح تتجمع في جهة، وتكثيف واقتصاد وتورية ورمزية وتعبيرية وتكرار وتأكيد ودلالات لغة وأفكار إياد شاهين القصيرة والناجزة في جهة أخرى. وربما هذه النقاط بحد ذاتها هي سر الاختلاف والإبداع!!

ملاحظات أولية

اختار الشاعران عنواناً مؤلفاً من كلمة واحدة.

“تحتانيات” فادي عزام والمشتقة من كلمة تحت. الغلاف أبيض مع صورة للبطاقة التي يوضع عليها عادة سعرالسلعة المباعة “الحكي بضاعتنا الأنفس”، وبجوارها صورة سحلية. نصوص مستمدة إذن من تحت، من الأسفل من الزحف في القاع وفي الزوايا والثقوب والشقوق الأماكن التي قد لا نعرفها ولا نتجرأ على النزول إلى هناك وقد نعيش هناك ولكننا لا نعترف بغنى هذا العالم ونحن نتطاول لنصل إلى السطح حيث نعتقد أنه فوق!!.

“تحت الأسف: الغضب كما يجب

تحت الجسر: المشيمة بكامل عدتها

تحت الرجل: أمرٌ إلهيٌ على هيئة امرأة

تحت صباح الخير: توقع لفقدان سيصدق يوماً…”

وفي “كورتاج” إياد شاهين أو عملية الإجهاض القسرية. لجنين لم يكتمل، جنين غير مرغوب باكتماله وحضوره إلى هذا لعالم. عملية تجرى في الجزء التحتاني من جسد الأنثى، الأم، الأرض، الطبيعة، الحياة. لتجهض روحاً من روح وتخلص جسداً من جسد وتريح بالألم إنساناً من عبء آخر وكياناً من كيان. الغلاف أسود واللوحة لسيلفادور دالي لإنسان يشق رحم الكرة الأرضية، في صراعه مع البلاد والخريطة محاولا الخروج جزئياً بصعوبة بالغة. نصف عملية غير مكتملة ولا أحد يعرف إن كان سينجو..:

“منذ متى أبكي

فلا تنهض أمي من موتها

كي تهزَّ البلاد.” 

كلا الكتابين هو عبارة عن مجموعتين من النصوص. في استعراض أسلوبي بديع. فقد اختار عزّام أن يقسم تحتانياته إلى قسمين. القسم الأول نصوص شعرية تمسك بتلابيب فكرة محددة وتعمل على تقليبها وعصرها لاستخلاص روح الفكرة. مثل نص (في مدح الخسارة)

“الخسارة امتلاء الذات

الربح إفلاسها

في الخسارة يؤجل اليوم والعمل والعمر إلى الغد

الربح لهاث..” 

والقسم الثاني نصوص سردية استمر في بعضها انتهاج ذات الأسلوب مثل نص (تسع أرائك). لكن هذا الفصل لا يحجب عن القارئ هيمنة الشعر حتى وإن اختلف تشكيل النصوص وامتزج النثر والسرد لأنسنة الأشياء، من نظرة الإنسان لها وبوجهة نظرها وبروحها ونبضها وحكاياتها:

“أريكةٌ لا تلفت الانتباه.. تحاول الاحتفاظ طويلاً بالأثر، تحاول التشبث بهم حد الالتصاق..

أريكةٌ يقولُ لو أنها أوسع قليلاً.. أما هي الأريكة ذاتها، آهٍ لو كنتُ أرجوحة.

أريكةٌ تم استخدامها حطباً الشتاء الماضي…”

بينما عمد شاهين على التناوب بين نوعين من النصوص، النصوص الشعرية المعنونة (الشبح، الغريب، الشجرة..)، والومضات الشعرية غير المعنونة التي قد تبدو أحيانا قصصاً قصيرةً جداً:

“استيقظت في الصباح

وذهبت إلى المغسلة

وجدتها عالية جداً

فعدت إلى البالوعة”

وأحياناً أشبه بقصائد الهايكو (الحب طائرٌ صغير.. يسابق السماء). والتي يمكن بسهولة تمييزها كلما استرسلت بالقراءة وأجبرت على التوقف لتشهق دهشة وألما.

أولا التلميح أم الأشياء بمسمياتها:

تبدو دمشق بأسمائها وصفاتها وتاريخها وذكرياتها وحاضرها وقاعها حاضرة بقوة لدى فادي عزام. يتجول فيها بحرية العارف وشغف المكتشف. فهي ليست فقط موضوعه الأثير بل هي كل تشكيلاته المحببة. هي الأم والوجع والحب والعشق والغضب. يهديها كتابه “إليكِ أيتها المدينة العصية على النكران. أيتها القاسية الجامحة القارسة الحارة السانحة اللدودة الولودة المهيبة المغرورة الملولة المتأهبة الطافحة..” 

وليست دمشق فقط. فلا يبدو أن مكانا يفلت من استقصاء الشاعر. فسوريا أيضاً جلية واضحة، ذاتية جدا، ومفرودة تحت مجهر النقد والعتب. القراءة لفادي سفر وارتحال ونقلات نزقة من دمشق لباريس ومن لشبونة للسويداء، من بردى للسين، من قاسيون لجبال البيرنيه.

“أصرع وجوه باريس كضربة “بولينغ” موفقة

وأعود إلى الشام”

الأشخاص حاضرون أيضاً، بأسمائهم وملامحهم وقصائدهم. أسماء أعلام محتشدة بأفكارها ومقتطفات من أقوالهم منسوجة بعناية داخل النص أو معلقة خارجه حتى تجعل الهامش جزءاً حميماً من المتن. تجمع كل العصور الأدبية بإخلاص للثقافة بمجملها، العربية والغربية، فتجد مقولات الإمام الشافعي وأبي نواس متجاورة ومنسجمة، وتتعثر بسوريا رياض الصالح الحسين وقرطبة لوركا.

“شنب شارلي شابلن وشنب هتلر، شارب دالي ولحية كاسترو، وفارت البيرة على لحيتي.” 

“هل نستطيع النظر لوجه فرنسا دون أن نرى تشطيبات آرثر رامبو وسهد ليتريمون؟ كيف يمكن أن نتحمل ثقل دم ألمانيا لولا غوتة؟”

أما في كورتاج إياد شاهين لا تجد أي إشارة لمكان معرّف. وبتعبيرية كاملة ستجد المدينة والنهر والشجرة والبحر والشارع ووطن.. وبصعوبة تعثر مرة واحدة على بردى لتستدل على تاريخ الحكاية في ومضة تساؤل:

“أين بردى ؟

مات من العطش”

وعلى الرغم من أنك ستلتقط إسمين أو ثلاثة معروفين فقط في العناوين مثل محمد الدرة وليلى مراد لكن إياد يترك لدلالات المعنى تذكير القارئ بمجمل المشهد فتجد في نص بعنوان محمد الدرة:

“أبي لا تخف

وقل للسلامِ بأن الهواء المدمّى

ارتجف

بأن الملاك المسجى اعترف”

لكن التعبيرية هي الغالبة فأغلب الشخوص التي تملأ النصوص هي رجل وامرأة والشبح والغريب والمشنوق والمخدوعة والراقصة، وغالباً تكون هي عناوين النصوص المحبوكة كشبكة معنى تحتاج أكثر من تقليب وتفكيك. لتحرير المقصد. وعن الغريب:

“أين وجدتموه؟

في ثيابه

وجدناه حياً وميتأً

مكباً على صفحة من غيابه”

الحب والشعر والموت والبلاد:

التحليلات الطويلة لا تحظى بعطف القارئ، لذا سأجبر نفسي على الاقتصاد بأمثلة للمقارنة. تيمات تتكرر لدى الكاتبين، كل منهما يسخر لغته للتنويع على المبنى والمعنى. لكنها دوما تفضي إلى الحب والشعر والموت والبلاد حيث في كل منها تنشط الروح أو تنكفئ، يتألق الجسد أو ينهزم ويموت، وينأى الوطن ونتغرب فيه وبعيداً عنه. ويتشرد الشعر بين أقصى طموح للتعبير وأقصى ضياع في دوامة اللاجدوى..

الحب عند فادي عزام عجينة من كل المكونات. من تمجيد الخسارة على الأرض حتى الصعود إلى السماء. عملية بحث حثيثة بين الدقائق والصغائر والمنمنمات في العطاء والحرمان على السواء.

“سأهديكِ وداعاً نقياً 

ونهاية هادئة

تجعلك تشعرين بوخزة خفيفة لذيذة في القلب

كلما عبرت رائحتي ذاكرتك 

أواخر العمر”

تتجلى الرغبة في نصوص تحتانيات عالماً غنياً بمفرداته وحاجاته، محاولا الوصول لغاية محددة وصادمة، وغالباً بلا لف أو دوران وبإطالة كتقاسيم لا تنتهي على جملة لحنية واحدة. حتى وإن كانت العناوين بحد ذاتها لوحة تشكيلية “كلطخة حبر فرت من جملة معجوقة” إلا أن النص لا يمل من الوصول إلى نقطة محددة عبر كل الدروب:

“كاملاً مكمّلاً إلا من البدايات الطويلة

أشتهيكِ هكذا

بنفسٍ قصير، وتطاولٍ بالغ ووقاحة عتالي الميناء.”

لكل شيء جسد وحواس في نص فادي عزام، عندما يكون الحديث عن مدينة أو امرأة أو حالة أوشعور عابر أو مقيم.

“مخموشٌ بمخالبكِ التقية، تخرّش حبالي الصوتية

فأصبح قابلاً للغناء، أقصد الانمحاء حتماً

مسكونٌ بأسنان ظلالك أطلي البيت بأنفاسك

أجلس على الصوفا أستمع إليك محدقاً في الجدران

وأنت تتلين صلاة الجسد والغياب”

يصلك إحساس وأنت تستعرض تحتانيات بأن الكثرة تولد أيضاً الحسرة، والحاجة والفاقة. في الجسد كما في القصائد. تكتب كثيراً لتداوي الفقد، ثم تشتهيه مرة أخرى، الفقد بحد ذاته يعيد لعملية البحث والاكتشاف ألقها.

“.. أنا مكتظٌ بقصائد الرثاء، أريد أن يموت من أحبهم، أريد أن يصبح لي شغفٌ بفقدان حقيقي يطلق سرباً من الأسئلة التي لا تجاب إلا بالشعر..” 

الترحال كثير في تحتانيات. تشرد بين الجهات وحلقات دائرة كلما اتسعت ازداد الخناق ضيقاً، بين القرية والمحافظة والعاصمة وسورية. بين مدن أخرى، إلى الشمال دوماً، تتجه البوصلة. ستبدو كل مدينة معقودة بخيط قدري في أصابع التجربة. لذا لا يخرجُ مرورٌ عابرٌ بلا قصيدة مقيمة. ومهما بدت دمشق راسخة ومهيمنة ومحيطة ورابضة وعصية على الانزياح، فجسور الحنين في صعودها المستمر، ومسارب الهروب لتغيير المصير لا تفضي إلا إلى الرحم الأول، الذي نخطئ في الاعتقاد أننا انزلقنا منه مرة واحدة وإلى الأبد.

“مهما تغيرت وسيلة النقل

وأسماء المدن

وروائح النساء

وطريقة الاحتفال

ووجوه رواد البارات

تبقى “المربعات” أعلى ما أصبو

والسويداء أقصى ما أصل.”

وإلى كورتاج إياد شاهين، حيث يبدو كل شيء جاهزاً ليصبح أمراً آخر. كأن المفردات الدالة على الحياة تتبادل الأقنعة والأدوار بين القصائد. ذات الشاعر نفسها حاضرة لتسد أي فراغ. في الحب في الشعر في الموت وفي البلاد. ومن ثلاثة نصوص مختلفة العناوين اخترت نماذجَ لعزفه على هذا الوتر:

“لا أثرَ لكِ سوايَ.”

“ولا شيء بعدي بعيدٌ

لأنني عشقت.”. 

“من أنتَ؟

جرّب مرةً أحداً سواكَ

فاخلع قناع الموتِ عنكَ

إن استطعتَ

لكي أراك.”. 

في كورتاج يتخذ الموت هيئات عديدة، ليكون الحب والشعر والبلاد، والذاكرة والحياة والعتاب، وليكون هو بصفته وشخصه مجرد موت عادي وأمراً واقعاً.

“الجثة برعمٌ يتفتح على الرصيف”.

“هل كفّنوها؟؟

يا ليتها شرنقة.”. 

“ليس من حقٍّ لموتانا

أن يموتوا قبلنا

يودعون وداعنا

يرتبون ثيابهم وغيابهم في حزننا

ليس من حق لموتانا

أن يموتوا مثلنا”

والشعر في كورتاج تشكيلات لغوية وتصويرية بالغة الدقة. إياد شاهين يزن الكلمة بميزان حساس، لا مجال للإطالة هي العبارة من بوابة ضيقة تفتح آفاق المعنى:

“جاءت الخيول عبّت من النهر وجه القمر”.

“لا تتركي جسداً حول روحكِ يا راقصة.”.

الفلسفة كرؤى للعالم تجعل من الشاعر أكبر فيلسوف. وتضع الوعي في مكانه الفاصل على الحد بين الشعر والفلسفة:

“من يريد أن يصبح مركزاً

لن يعرف شيئاً عن المحيط”

“لم يعد يكفي أن يبللها ويلويها

لتعود ضلعاً كما كانت”.

يختم إياد نزاله مع نده الشعر، متكافئاً بلا ربح أو خسارة.. كأن شيئاً لم يكن:

“كانني كما كنته

خانني كما خنته

كأننا الآن

لا كانني ولا كنته”

وتبدو الهواجس ذاتها تدور في فلك تفكير فادي عزام فهو تارة يتشكك بالتساؤل وأخرى يعطي الشعر منزلته العالية في نص بعنوان شفير الشعراء:

“هل يستحق الشعر يوماً الاحتفال؟…

إنها بلادٌ تصكُّ بختم شاعر، إنها أرضٌ تطوب لحلم شاعر… إنها البلاغةُ، يحترس الشعراء منها ومن فخ الملل والمثل والأمل.”.

.

ربما هذا هو السبب الذي جعل من كورتاج ديواناً وحيداً بطبعتين في رصيد شاعر مُجيد كإياد شاهين. ولنفس السبب ربما استجار فادي عزام بالرواية “سرمدة” ليشبع بين دفتي حكاية طويلة رصيد اللغة والسرد والفكر.

أعرف جيداً أن قراءة الناقد كقارئٍ وسيط لا تغني عن قراءة القارئ. هي إشارة إلى حيثُ وجدتُ كلَّ هذا الغنى. وأتمنى أن أكون قد فلحت في حثكم على البحث عن الكتابين. فكما أن القسمة غير عادلة ولا تفي أصحاب الحقوق حقهم، أعتقد جازمة أن الناقد لن يدخل الجنة.

..
..
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
– لتحميل النسخة الإلكترنية من مجموعة تحتانيات – انقر هنا
– لطلب شراء النسخة الورقية من ديوان كورتاج – انقر هنا
.
.
………………….
ملاحظة: هذه الدراسة نشرت مجتزأة في جريدة النهار الكويتية.
.

عن نسرين طرابلسي

نسرين طرابلسي
كاتبة وإعلامية سورية. صدر لها المجموعات القصصية: في انتظار أسطورة، وأدرك شهرزاد الملل، بروفة رقص أخيرة. وفي النثر: حديث الخرساء

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.