الصفحة الرئيسية / نصوص / شهادات / تاريخ من لا تاريخ لهم – ٣

تاريخ من لا تاريخ لهم – ٣

أحمد سويدان

 

السبت 5/1
جاءت زيارتي.
بيني وبين الزائرين شبكتان من الحديد..
بالكاد تتلامس الأصابع
الزوار: زوجتي، وابنتي الصغرى ريما التي تركتها ابنة تسع سنوات، الآن هي في السابعة عشر عاماً.
في عيني زوجتي يتراقص الحزن، ولكنها قوية العزيمة صابرة. وهذه الابنة التي كانت ترقد في حضني تستمع إلى الحكايات التي ما انتهت إلا عندما ساقوني .. يمور في وجهها الفقد والفقر والحرمان.
الزيارة هنا صارت شهرية. لم نتكلم أبداً عن الإفراج. لا يوجد أمل. النظام قوي، وأمريكا وراءه .. إنه يزج بأزهار الوطن في سجونه من السوريين، والفلسطينيين واللبنانيين .. لقد حقق في سجونه وحدة بلاد الشام، وهي نواة الوحدة العربية التي يعمل لها ليل نهار.

الأحد 6/1
داخل السجن تمضي الحياة رتيبة، ومملة. لقد وشم على الوجوه آثاره.
منذ أيام تدمر بدأت الانتكاسات النفسية. ظهرت جلية، وواضحة على الفلاح علي الدخيل وهو فلاح من الرقة.استيقظ في فجر أحد الأيام، ونادى في الهاجعين أن استيقظوا، ثم ألقى خطاباً تناول فيه ضرورة تطبيق الاشتراكية في المهجع، والابتعاد عن الطعام البرجوازي والالتصاق بعوامل التقشف .. وعدم مد اليد إلى الأموال العامة، وضرورة أن يكون الشاويش مبدئياً، متهماً إياه بالعمل لصالح مدير السجن! إلى غير ذلك من الأوصاف والنعوت.

في السجن الجديد ازدادت حالته تفاقماً، وخصص له مدير السجن مهجعاً مستقلاً. مدير السجن هو العقيد بركات العش من اللاذقية حي “الصليبه” وقد كان مديراً لسجن تدمر، ومساعداً لمدير السجن فيصل غانم سيء الصيت والسمعة عندما اقتحمت قوات رفعت الأسد السجن عام 1981 وقامت بالمجزرة المعروفة. بين آونة وأخرى كان مدير السجن بنفسه يزور صاحبنا في مهجعه. لقد ساعده بأن عرضه على لجنة طبية في منتصف عام 1988، كما أفرغ له مهجعاً. مدير السجن هذا كان مستقيماً، نظامياً، وبعيداً عن السادية، ونظيف اليد وهذا من غرائب الأمور في نظام حكم فاسد من رأسه إلى قدميه، وقمعي وسادي.
في إحدى زياراته إلى مهجعه .. طرح أبو خليل (علي الدخيل) على مدير السجن أن يرسل وراء زوجته، وتدخل سراً، وتنام معه في المهجع .. وافق مدير السجن، ولكنه قال للسجين أن يمهله كي يتدبر الأمر بعيداً عن العيون والجواسيس.
في مطلع عام 1989 قررت اللجنة الطبية إخلاء سبيل صاحبنا علي الدخيل.

الاثنين 7/1
التقيت بالضابط من حماه نادر علي عدي وكان قد اعتقل برتبة عميد، واختصاصه مدرعات ، وهو من مواليد 1936 . التحق بالكلية العسكرية في مصر في أوائل حكم الوحدة وهو يفتخر بأنه تخرج من كلية برئاسة الضابط المصري المشهور محمود فوزي.
هذا الضابط يشبه الضباط الروس الكبار الذين أحرزوا النصر على النازية .. نقل من سلاحه إلى مكتب مهمل في الأركان قبيل أحداث حماه .. ثم لفقت له تهمة مع آخرين، وقدموا إلى المحكمة الميدانية بتهمة التآمر .. وأمام المحكمة ثبت بأن الضابط المذكور بعيد عن التآمر، ولم تجد المحكمة بداً من إخلاء سبيله بعد تبرئته، ولكن بدلاً من إطلاق سراحه سِيق إلى سجن المزة . إنه سجين البراءة .. والبراءة تهمة تمس كذلك الأمن القومي.

المحاكم الميدانية لا تعرف سوى الإعدام حكماً .. لكن براءتها لا تؤخذ بعين الاعتبار , أم ترى يتم تجاهلها ؟ .. هذا يدل أن أحداً لا يجوز أن يكون بريئاً. إنه لأمر غير طبيعي أن يكون البريء مداناً .. هكذا طبيعة هذه الأنظمة الوبائية التي جاءتنا، وكأنها لا علاقة لها بالوطن، والمواطن.

 

 

الجزء السابق

عن أحمد سويدان

أحمد سويدان
أديب وصحفي متقاعد من مدينة السلمية، معتقل سياسي سابق لمدة إثنا عشرة عاماً ونصف 1982- 1994. أصدر بعد خروجه من المعتقل ثلاث روايات قصيرة: الزمن العقاري، كذبة نيسان، ومرآة الأنام، حيث تمكن من إعادة انتسابه لإتحاد كتاب العرب، بالإضافة لمجموعة قصصية عن مدينة السلمية بعنوان "خيوط تقطعت".