الصفحة الرئيسية / زوايا / رحلة العودة إلى حي “الدحاديل”: (هذه ليست حارتي، إنها كومات من الحطام والدخان والغيظ)

رحلة العودة إلى حي “الدحاديل”: (هذه ليست حارتي، إنها كومات من الحطام والدخان والغيظ)

425288_10150582722961231_642536230_9545423_1413275391_n11روزا ياسين حسن
خاص بدحنون
 

بعد عدة أيام من قصف حي “الدحاديل” وجاره حي “نهر عيشة” في نهايات شهر تموز 2012، وذلك بالتزامن مع قصف حي “الميدان” القريب منهم، قرر “صلاح”، لسبب ما مازال يجهله حتى اللحظة، العودة للاطمئنان على بيته وسط الحارة القديمة!! كان قد استطاع، بأعجوبة، إخراج عائلته من الجحيم منذ أيام قليلة: زوجته وابنتاه الصغيرتان وأمه وأبوه العاجز، الذي نقلوه تحت زخّ الرصاص في طرطيرة مخصصة لنقل الخضار والفواكه، وذلك بعد أسابيع من حصار المنطقة بأسرها من قبل النظام بحواجز ودبابات وسيارات زيل السوداء. وحين قرر العودة لم يُعلم أحداً من أفراد عائلته، التي كانت ستجنّ فزعاً لو عرفت بعودته!!

“هربنا إلى قريتي “جباتا الخشب” في القنيطرة.. فكرت بأنها ستكون مكاناً آمناً.. ربما. ولكن بعد أيام قصفوا “جباتا الخشب” أيضاً، فاضطررنا للنزوح عنها من جديد.. وقصة الحرب في “جباتا الخشب” قصة أخرى قد أستطيع سردها في يوم آخر..”.

قال “صلاح” ثم تنهّد.

كان ثوار “بيادر نادر” المتصلة مع بساتين “كفر سوسة” قد نفذوا عدة عمليات على أتوستراد درعا الذي يقطع حي الدحاديل: إغارة على حاجز، أو استهداف دوريات أمنية. ولكن ذلك لم يحصل إلا بعد شهور طويلة من اندلاع الثورة السورية، بالضبط بعد مقتل الشاب “محمد طه”، وكان الشهيد قد نجح في امتحان الشهادة الثانوية قبل أيام قليلة من مقتله. أطلق النار عليه حاجز الأمن عند مدخل حارته، وتركت جثته لنصف ساعة في الطريق، قبل أن ينقلوه إلى جهة مجهولة في سيارة بيك آب بيضاء أمنية. بعد أيام اتصلوا بأهله ليستلموا جثته من مستشفى المجتهد، ويوقعونهم، طبعاً، على إقرار بأن العصابات الإرهابية المسلحة هي من قتلت ابنهم.

في تلك الليلة خرجت الدحاديل عن بكرة أبيها في التشييع، النساء والأطفال والعجائز، ووسط زغاريد الحزن ابتدأت “الدحاديل” مرحلة جديدة في الثورة.

مع مرور الوقت راح الثوار يوجّهون ضربات عنيفة لقوات النظام، آخرها كان إصابة دبابيتين بقذيفتين وعطب ثالثة، ومقتل ضابط كبير في الجيش، حينها بدأ القصف على الحي.

“كان ثمة ثوار بالتأكيد، غالبيتهم مدنيين مسلحين يدافعون عن أهلهم ومنطقتهم بعد ما حدث من فظائع في المدن الأخرى، ومنهم عساكر منشقين.. لكن القصف استهدف البيوت والمساكن أكثر مما استهدف البساتين التي من الممكن أن يكون الثوار قد التجؤوا إليها.. من مات كان المدنيين، وبيوتنا هي التي هدّمت.. أعتقد بأن النظام يريد تدمير مناطق الثورة، وليس الثوار فحسب”.

“تقصد الحاضنة الشعبية للثورة؟”.

“أجل.. ربما!”.

أسرّ “صلاح” من جديد.

كان عليه أن يأتي من جهة حي “القدم” كي يصل “الدحاديل”. الوقت عند الظهيرة، الشوارع خاوية إلا من صوت الهواء والغبار وطلقات الرصاص المتقطعة، وثمة دبابة مازالت عند مفرق “الميدان” أمام وزارة النقل قرب كازية “نهر عيشة”، وسبطانتها موجهة إلى جهة الحيّ. وفي الوقت الذي كان “صلاح” وخاله يقطعان الطرقات الموحشة تحت الشمس مهرولين، فوجئا بأصوات تلقيم أسلحة، وإذ بحشد كبير من عناصر النظام يرتدون بذات عسكرية يقفون على يسارهما في فيء المباني.

-“وقفنا مرعوبين وهم يوجّهون البنادق إلينا، ويصرخون أن نقف.. ووسط خوفي استطعت أن ألمح جثتين لرجلين متكئين على برميل القمامة.. وحينما كان أحد العناصر يسألنا زاعقاً عن وجهتنا، ويطلب هوياتنا، كنت أراقب بطرف عيني أحد العناصر وهو يصوّب على أحد الجثتين ويطلق عليها ضاحكاً، فتهتزّ الجثة قليلاً ثم تقع.. ينطلق رفيقه ويسندها من جديد، ليكمل الآخر تدريبه في التصويب على الجثة كدريئة حية..”.

لم يكن “صلاح” مطلوباً وكذلك خاله. ولسبب ما يتعلق بالأقدار ربما تركهم العناصر يهرولون إلى بيتهم على الضفة الأخرى من الأتوستراد. وكان ثمة ثلاث سيارات “كيا” مصفوفة أمام متجرين لبيع الجملة، أحدهما يبيع بضائع غذائية ومنظفات والثاني أدوات منزلية، كسر العناصر أقفال الغلق وراحوا ينقلون الصناديق إلى السيارات.

حينما كان الاثنان يهرولان باتجاه البيت كانت الإطارات المتفحمة والحجارة والأسيجة الحديدية ماتزال تقطع الأتوستراد.. القناصة مازالوا منتشرين على أسطح البنايات العالية التي استولت قوات النظام عليها. وكانت “الدحاديل” وأتوستراد درعا أشبه بأمكنة للأشباح، تفرّ منها رائحة الدم والبارود والخوف..

في الحي كان ثمة بعض الشباب الصغار يحاولون تقديم الماء والشاي لبعض عناصر النظام، الذين اقتحموا الحي بعد خلوه من المدنيين والثوار، ويترجّونهم ألا يقوموا باقتحام منازلهم، فالشبيحة يقتحمون البيوت، ينهبونها أو يدمرونها.. خلفهما كان ثمة عنصر بلباس جيش واقف على سيارة بيك آب أمنية ويطلق النار عشوائياً في أزقة الحي الضيقة، مما جعلهما يتواريان وراء أحد الجدران ريثما يمرّ رصاصه الطائش!

“في الطريق كانت بيوت الجيران مثقبّة بالرصاص، وهناك فجوات كبيرة في بعض واجهاتها.. وهناك بيوت محروقة وواجهات محال مدمرة كاملاً.. وجزء من حائط الجامع مهدّم.. مما جعلني أفكّر بالشكل الذي سيكون بيتنا عليه!!”.

استقبله بعض الجيران الذين رفضوا الخروج من الحارة والتحوّل للاجئين. غمروه كأنه غائب منذ سنوات.. كانوا بخير. وعرف أن أحد أبنائهم قتل في الشارع بشظية قذيفة.

كان حوش البيت مليئاً بفوارغ الرصاص، والفوضى العارمة تبيّن بأنهم كانوا يفتشون عن مال أو صيغة، فلا يمكن أن يكون ثمة أسلحة بين الأوراق أو في أدراج الملابس الداخلية.. غسالة الأتوماتيك، التي لم ينه “صلاح” قسطها بعد، مثقّبة بالرصاص كأنها غربال. يبدو أن العنصر أفرغ مخزنه كاملاً فيها.

“لم يكن هناك سبيل للبقاء في المنزل.. وضعه المزري وأصوات الرصاص، والتواجد الكثيف لعناصر النظام تجعل التواجد خطراً في هذه الفترة. عدت إلى أهلي لنبحث عن مكان آخر للجوء، ربما لا نضطر لأن ننزح عنه من جديد.. وعلى كلٍ لا يوجد اليوم مكان في سوريا نضمن أن يكون آمناً تماماً.. ماذا سنفعل؟!.. على الله!!”.

————-

 * الدحاديل حي يقع في الجهة الجنوبية لمدينة دمشق، على أول الأتوستراد الذاهب إلى درعا. ملاصق لحي نهر عيشة الملاصق بدوره لحي القدم. وهي منطقة عشوائيات فقيرة، سكانها متنوعون بين سوريين نازحين ودمشقيين ومن المحافظات وفلسطينيين أيضاً.

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.