الصفحة الرئيسية / تجريب / خذوها كلها يا أولاد الـ …
القصير المدمرة
القصير المدمرة

خذوها كلها يا أولاد الـ …

ع. س.

 

لم يعد في القصير أبنية طابقية. قد تجد غرفة سالمة أو شقة تصدع فيها أكثر من جدار. كل هذه الأبنية الجميلة صارت ركاماً… أنا بنت القصير أسير في مدينة السويداء، وأرى زحف الأبنية فيها من الأرض إلى السماء بسرعةٍ ورشاقة وابتكار في المخططات وتنويع في الألوان وأشكال البرندات ورسوم السيراميك، لكنها أبداً ليست أجمل من تلك التي كانت في القصير وصارت تلال إسمنت مفرفط.. بل لم ترتق حتى الآن إلى الجمال الذي كانت عليه القصير، وفخامة الفرش الذي كان في بيوتنا، والذي كنا كلنا نشتريه من لبنان، والذي سُرق الآن كله..
كان لأهلي ستة عمارات كل منها بعدة طوابق في كل شقة منها خمس غرف على الأقل.. لم يبق منها شيء. وكان لديهم حوالي 500 دونما مشجّرة بكل أصناف الفاكهة. أمي وأبي المسنان كانا آخر من خرج من القصير بعد أن قضيا شهوراً في الملاجئ، وعاندانا كثيرا لأنهما لا يريدان النزوح، رضخا لإلحاحنا أخيراً بعد أن اختلّت عقولنا رعباً عليهما، خرجا في سيارةٍ ـ شاحنةٍ صغيرة، وكانت لأبي أمنية أخيرة أن يتفرج، يلقي نظرة وداعٍ على أشجاره الحبيبة، وبأم عينه رأى الجند يعملون فيها تقطيعاً بمنشارٍ كهربائي موصول إلى مولدة ضخمة.. كانوا يقطعون الأشجار بحماس، بإخلاصٍ غير مشروطٍ للأوامر العسكرية العليا.. وانجلط أبي على الطريق.
قبل أن يخرج أخي بعد أن قاتل حتى النهاية غافلهم في الليل وكتب على أبواب محلاته السبعة في وسط السوق، كتب: خذوها يا أولاد ال…. هي وغيرها فدى الثورة. وأخي الثاني الذي وقع صاروخ أرض أرض على بيته وقطع ابنتيه الوحيدتين، وانعقد لسانه وأصيب. نقلوه إلى لبنان ليكمل ما بقي له من حياة هناك مع شلله الرباعيّ الذي حلّ بجسده منذ لحظة سقوط ذلك الصاروخ أرض أرض..
أهلي صاروا في لبنان، وأنا جئت إلى السويداء التي سبقنا أسلافي إليها. أهل زوجي موسرين لكن ليس كما أهلي.. تريثنا في الخروج قبل حصار القصير لأن زوجي موظف. كل ليلة كنا نموت رعباً قبل أن يعود إلى البيت. كان الطريق بين القصير وحمص مزروعاً بالحواجز. في أول الأمر كانوا يوقفون أسماء معينة يقولون أنها مطلوبة، ثم بدأوا يعتقلون وفق أسماء العائلات، ثم لم يعودوا يكتفوا بهذا، صاروا يأخذون الهويات إلى التفييش على الحاجز الرئيسي، ثم يعيدون بعض الهويات إلى أصحابها ويطلبون من الباقي أن ينزلوا من الباص. وهؤلاء (الباقي) تجمعهم صفة واحدة مشتركة هي أنهم جميعهم من السنّة. يأخذون أكثرهم إلى الاعتقال، ويشتمون النساء (بتتشرشح كل النسوان السنّة بس لأنهن سنّة)، ويتضح أنهم لا يريدون سوى تعطيل أعمال الجميع، وترعيبهم رغم أنّهم لم يكونوا كلهم في صفّ الثورة
تخيّل لو أنك تذهب في زيارة لصديق عمرك الذي تحبه وتشتاق إليه وتسعد بصحبته، هناك لن تمضي عليك ساعة واحدة حتى تشتاق إلى بيتك، إليس كذلك؟! هذا هو حالنا، أنا أشتاق إلى بيتي، أشتاق كثيراً. ابني عمره 5 سنوات، قال لي أمس: ماما نحنا وين بيتنا؟ بالطبع لم يقصد بيت القصير، ربما لم يعد يذكره حيث مضت سنتان على نزوحنا منه. زوجي طلب أن ننزح بعد أن أوقفوه على الحاجز أكثر من مرة وضربوه ثم اعتذروا منه (كالعادة فالوا له: تشابه اسماء بينك وبين إرهابيين) فقرر أن يغامر بترك وظيفته والمجيء بنا إلى الشام ثم إلى السويداء حيث أخوته، وخلال شهر وصله خبر فصله غيابياً من وظيفته، وخلال هاتين السنتين تنقلنا حتى الآن بين عشر بيوت، ومن أجل هذا يسألني ابني: ماما نحنا وين بيتنا؟!

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.