الصفحة الرئيسية / تجريب / قدمان على أرض تميل – ٦
Jean-Michel-Basquiat
Jean-Michel-Basquiat

قدمان على أرض تميل – ٦

مصعب النميري

 

1

ها أنتذا
أيها النعمان
تتعلم درساً جديداً
بعد أن ضاعت الحيرة من بين يديك.
ما كان كسرى ليحضّر لك الوليمة
لولا أنه يريد ابنتك.
وما كان عنترة ليغير على إبلك في وِهاد البصرة
لولا أنك حبستها عنه
حين كان يبحث عن مهر لعبلة.
الآن
وأنت تمسح رقبة خيلك اليحموم فوق الرابية
تقول في سرّك:
يا ليتني تلقيت نذور الدمّ
حين تفتّخت الشقائق الحمراء في باحة الخورنق.

….

2

عرفت أنني أمشي وحيداً. ونظرت إلى المداخن التي تبعث دخاناً أبيض في الليل. كان الأعمى يضع الناي في جيبه ويأخذ نفساً. والرذاذ يجعل الضباب كثيفا بيني وبين الضفة الأخرى. ها أنذا، إذاً، وهاهي ذي عيوني الباردة، والمراكب، وقناديل البحر، والنوارس التي تتسمر في أماكنها قبل أن تهوي على سرب السمك. سيأتي هدير السفائن قبل أن تأتي السفائن، وتأتي الغيوم بأحمالها من مدن الشمال، وستأتين أنتِ من حيث لا أدري. عرفت هذا، ثم عرفت أنني أمشي وحيداً، ونظرت إلى النجوم فلم أتقرّاها طويلا، لئلا يقع بصري في الفلك على نذور الخراب. ولأنك ستأتين، حتماً، من حيث لا أدري، ولا تدري النجوم.

….

3

أسمعها تهدلُ
كلّ صباحٍ في الإفريز.
وتهوي مثل الرّعد
على كسرات الخبز اليابس
في المنور والحوش.
.. ياما حدّقت طويلاً
من خلف الشباك
بها
حتى تذهب من دون نذير.
وأردت بأن أعرف
ماذا تفعل في الليل الماطر
عند مصدّات الأمواج
وفوق العبّارات البيض؟
جائلة حول الصيادين
وجالسة تلقاء البحر
على قرميد الدّور.
لو أن يدي دخلت في العشّ لما عادت.
ولظّلت تبحث في فجوات الحائط
أو بين الأغصان
على عشّ آخرَ
في جنح الليل.
لكنّ يدي، طبعاً، لن تقربه.
أعرف ماذا يعني
أن تبحث عن عشٍّ آخرَ
في جنح الليل.

………

4

كان أجدادي يصعدون في الليل إلى الأكمة ليقتربوا من القمر المدوّر، ويطفئون المشاعل في العتمة لكي تتبدى السماء واضحة بأقراطها كالعروس المغناج.
يقولون أن جدي الراعي النميري كان يقضي جل وقته بين قطعان الإبل، جائلاً وإياها في هضاب البصرة. وأنه كان يكتب على رقعة من جلد الماعز تحت أشجار الخرّوب والعرعر، مأخوذاً بسطوة النص، غير آبه بمحدّثيه. وأنه كان يتلقى الأدب كما تتلقى الظباء نذور الزلازل، خاشعة في موضعها دون حراك. وأن الشعر كان ينفذ إلى فؤاده، فيتلقّاه بكل كيانه، إلى أن يهتزّ ويشحب. وكان يحلف بالجداول والغيوم والجبال، وإذا أراد أن يغلّظ يمينه أقسم بالنجوم التي تحترق. يقولون أن جريراً قضى عليه بما هجاه به، لأنه عجز عن الردّ. كان يسقم ويتورّم حلقه حزناً إذا لم يستطع قول ما يريد بأبيات الشعر. وجدوه في الليلة الأخيرة ميّتا في الركن، بعينين دامعتين، تنظران إلى الفوانيس التي عُلّقت على عمَد الخيام البعيدة.

…….

5

سلاماً أيتها الشمس الكاوية. ها أنت تموتين خلف الغيم الدّاكن. تاركة وجوه العَبَدة تشحب على شفائر الجبال. ها أنت، أيتها الشمس،ترفعين سوطك عن ظهر الأرض. وتعلمين أن عبّاد الشمس سوف يصلّي في سرّه للأنوار البعيدة إذا خيّم الليل. وأن الرّعاة سيتأخرون في هجعة الضحى. وأن الذئاب ستنقض على تلك الوعول، التي كانت تجري وراءها، في الحرّ، لتستدلّ على الغدائر.

….

6

مثلما تنتصب الجوزة قريبا من الجدول، يقف الأعمى بجوار أمه في مدخل السوق. قالت له حين كان صغيراً: خذ الناي هذا من يدي يا ابن الضريرة. ستعزف عليه إلى أن تنام القطط في الأزقة العتيقة. وستنفضه في الهواء كلما غزاه الرّيق. أنت لا تراني بجوارك. أنت لا ترى شيئا لأنني أورثتك ليلاً بلا نجوم. أحومُ بعينيَ البيضاء إذا سمعت صوتاً. وأغمض الجفن على العين المقلوعة لكي لا تدخل ريحُ الشتاء إلى المحجر الخاوي.
ها أنتذا تعزف والمطر على وشك الهطول. والناس يختبئون في المعاطف كلما اندفع الهواء البارد من جهة البحر. وأنا أتلمّس النقود في العلبة كل هنيهةٍ، لكي لا تفتقد العيون الحارسة.

 

 

الصورة: Jean-Michel Basquiat

عن مصعب النميري

مصعب النميري
كاتب سوري مقيم باسطنبول، حاصل على شهادة البكالوريوس في إدارة الأعمال. له نصوص شعرية غير منشورة بعد.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.