الصفحة الرئيسية / تجريب / قدمان على أرض تميل – ٧
اسماعيل الرفاعي- بورتريه
اسماعيل الرفاعي- بورتريه

قدمان على أرض تميل – ٧

مصعب النميري

.1

قل للمليحة
ما تشاء.

ما زلت قرب البحر منذ تركتني.

ما زلت قدام المنارة
والبواخر في المضيق
تقل أشياء ثقالاً
من بلاد الرافدين.

هل سوف يلفحني الهواء إذا بقيت هنا؟

هل سوف أنسى منظر امرأة
تفتّ الخبز للطير الهَبوط على الرصيف؟

قل للمليحة
أن عاصفة أتت إلينا قبل أسبوعين.

وأنني
لأتوه في التأويل دوماً.

قل للمليحة أنه
للمرء أن يبقى صموتاً في النهاية.

ذلك أن للكلمات شراً لا يرى.
فلكَم -إذا جاءت بما جاءت به- جدعت أنوفاً لا تراها.

.2

تسمع في العصريّة أصواتاً شتى
قبل يصير الحيّ عتيماً.

الورد الذابل يتحرّك من تحت الثلج.
وثمة كنّاسون
وبيّاعو سحلب
ومطارق تهوي في الأكواخ
على ألواح الزّان.

سأظن بأني عدت من الحارة
في هذا الوقت.

وأراني
متسخ القدمين
وأشعثَ.
أنفخ في الجرح النازف كيما يتخثر
وأراني
أحمل رمحاً مسروقاً من قصب السور.

سأنادي أمي من تحت الشباك
لكي تصنع لفّة معقود التين
وأرمي دخّاني بحذاء النهر
عبوساً مما أعطشني.

أتذكّر أني كنت على وشك العودة للدار.

ولا أتذكّر كيف نسيت.

.3

في المدرج
عند البوابة
أو قرب الصرح الأبيض
حيث الماء البارد
كان يسيل على الرّاحات
لكي ينزل في الجوف.

وحيث المدرجُ
-مثل الظل الساقط من أشجار المدرج-
ينعطفُ يميناً.
كنت أرى الشمس النازلة على الشتلات أمامي.
وكانت تلمع تحت الشمس
وبين الشتلة والأخرى
خيطان العنكب
مثل حبال النار.

كانت عليا ستقول
إذا رأت المشهد:
لو كان بَنيَّ عناكب
كنتُ عرفت لهم أثراً.

.4

هكذا تطلع الشمس من بين العمارات والشجر العريض. لقد سقطت الأشعة على الخشب المبتلّ مرة أخرى، وظهر العشب المدفون في أحواضه من تحت الثلج. واتضح صوت المزراب بعد أن طغى عليه هدير المطر الذي انهال بلا حسيب. من ثمّ، حين يأتي وقت الغروب، ستعود الخطاطيف إلى قيعان السّلال، والسهول إلى العتمة التي تلتهم الشطّ البعيد. وعما قليل، يعود بنو آدم إلى محاريب السرّ. وترسل العواميد نورها إلى تلال الحجر. وتنام الكلاب على الطوى تحت سواتر الصفيح.

ستأتي الليلة الضحياء بأستارها على هذه المهاوي. ولكن الشمس الغاربة ستجعل السحائب جمراً في المدار الأخير. لتستطيل ظلال الدراويش في الأزقة المشدّرة. وتشتعل القلاع على قمم الروابي. وتحفر مياه المزاريب طريقها في الثلج اليبوس. سوف لن تعرف، إذا عتّم الليل على المشهد، إن كانت المراكب آتية إليك، أو تاركة إياك قرب المنارة كشيخٍ أدرد… سترغمك العتمة، في حينها، على أن تغضّ الطرف.

ثمة ما لم تره حين رأيت العشب قصيراً حول الشجر. ثمة ما لم يكن يعنيك عندما رأيت أشعة الليل ساقطة على قمم الضفاف النائية. كان الرخام بارداً تحت مرفقيك. وقالت لك الأعمدة أنك ستظل صغيراً بقربي، مثلما يبدو العشب قرب شجرة الماموت. عرفتَ أنك لن تشفى من رهاب الأماكن الفسيحة لأن قلبك لا يكف عن الانقباض. وأن السمكة الحكيمة تظل هادئة إذا شعرت بطعنة الخطّاف. وأنه ثمة عشب آخر على السطوح الميّتة. كلما هطل المطر سترى نفسك قرب المنارة جاثياً لأسراب الطير. كلما عاد البرد ستذكر الغيم الخفيض يجول أزقة المدائن المعتمة. وحين يظلم الليل عليك ستنظر من غبش الزجاج إلى وميض البرق… وترى ما يراه الأعشى

 

 

الصورة: تفصيل من تشكيل لإسماعيل الرفاعي

عن مصعب النميري

مصعب النميري
كاتب سوري مقيم باسطنبول، حاصل على شهادة البكالوريوس في إدارة الأعمال. له نصوص شعرية غير منشورة بعد.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.