مقطع من تشكيل للفلسطيني عدنان حميدة

الصَّمتْ

حدثَ ذلك حين كنتُ في الرّابعة.

اكتشفْنا ذلكَ على العشَاء.

كما شَرحتْ أمّي تعرّض أبي لمرضٍ غريبٍ

أصبح يسمع بدرجةٍ خارقةٍ للعادة كل الأصواتْ

يسمع كل ما يقوله الجيران حول الطّاولة ..

أقصدُ كلّ الجيران، في كلّ بيتٍ، داخلَ الحيّ، والأحياء المجَاورة.

يستمع بوضوحٍ شديدٍ لكلّ ما يقوله الجميع، معاً، دفعةً واحدةً

يستمعُ لحركةِ ألسِنتهمْ داخلَ أفواههمْ، بينما يمضغونَ على عجلٍ و يمتزجُ هريرُ اللّعاب، بطرطقةِ الضّروس،  بحشرجةِ الحلّق حين الكلامَ ، بالتنخّم ، بالتجشؤ، بالضّحكِ الهيستيري و صوت اللّهاث ..

سمعَ كلَّ ذلك وأكثر، وبدأ يجنّ.

حاولتْ أمّي كلّ شيءٍ، سدادتَا الأذنْ، الأبواب السّميكة، العقاقيرَ العجيبة، الدّعاء والسّحر. لكنّها لم تستطعْ أن تمنعَ عنه ضجّةَ العالم. فانتقلنا.

صرنَا نسكنُ منزلاً منعزلاً من حجرٍ سَميك.

كان بيتُنا الجديدُ ببابٍ واحدٍ، بلا نوافذَ، ستائر أو معلقات.

و لحرصِ أمّي على تفادِي الصَّوت ، قطعتِ الماء ، و حين يَبُسَ الحقلُ أحرقَتهُ

حتّى لا يزعجَ أبي هفيفُ الورقِ الأخضرِ، انكسارُ الأغصانِ اليابسةِ أو وشوشةُ الكائناتْ.

أقنعتني أمّي بلا جدوى الكلامِ: الصَّوتُ يجنّن أبى، يجعلهُ عنيفا.ً

 وحدتنا ومحبّتنا كَعائلةٍ، كانتْ أهمَّ من كلّ الأصوَات.

ليتحقَّقَ ذلكَ وضعتُ قواعدَ لأدقِّ التّفاصيلِ، اتّبعنَاها بلا نقاشٍ أو انفعالٍ قد يكلّفُنا السُّكونُ وصحّة أبِي

هكذا عِشنا لسنوات.

ذات برقٍ، وجدْتُ أبي وأمي غَارقينِ في دمَائهما.

 لم أفهمْ كثيراً ما حدثَ ولم أعرفْ ماذا أفعَل.

سكبتُ بنزيناً -يبدو الكثيرَ من البنزين- صوتُ طقطقةِ النَّار، كان جميلاً.

في الطَّريق، كان من المبهرِ أنْ أكتشفَ ضجّةَ الكون كمَا في طُفولتي. كَما في خَيالي.

ضجّةٌ أليفةٌ، دافئةٌ، غريبةٌ، موحشةْ… وصرتُ أتوقُ لتعلّمِ الكلام.

التقيتُ بأشخاصٍ لطفاءَ … حديثهمْ الذي لم أفهمْهُ، كان مبهجاً ومثيراً فضحكتُ، ضحكتُ كثيراً،

غَضبوا منّي وانصَرفوا.

التقيتُ آخرينَ أكثر ضجّةٍ، حاولتُ أن أتحدثَ مثلهمْ كي أعجبَهمْ وأسْتبقِيهمْ، سَخروا من مُحاولاتِي.

حاولَ بعضهمْ أن يعلّمنِي النًّطقَ بشكلٍ جيّدٍ. لكنّني مللَتُ.  فانصرفْتُ عنهُم.

الجميعُ من حولي يتحدَّثونُ، أنا أستمعُ إليهمْ و بوضوحٍ، و أحسُّ بطنينٍ رهيبٍ في أذُنيَّ ..

خمَّنتُ أنَّ العيبَ منّي، وقرَّرتُ أنْ أعودَ إلى العالمِ الآمنِ الذي أعرفهُ.

في طريقي إلى الغَابة، التقيتُهُ، كان يصدرُ لحناً سحريَّاً

أحسسْتُ أنَّه قد نَبتتْ في جسمِي، آذانٌ صغيرةٌ، تمتصُّ كلَّ الصَّوتِ بالهواءْ

-أعجبكِ؟

اتسعتْ عينَايْ

-أحببَتُها ؟

كرَّرتُ خلفهُ

-حبّ.

ومشَيتُ معهُ.

منذُ ذلكَ الحينِ حين يراودنِي الرُّهابُ من الصَّوتِ، يعزفُ لأهدَأ.

علَّمني كلذَ الكلماتِ التي يُحبُّ نغمتَها وأنا مثلهُ أحببتُها

حينَ ألَّفتُ أوَّلَ جملةٍ، بدا حَزيناً، قالْ:

-يجبُ أن أرحَلْ.

فهمتُهُ تماماً، حاولتُ أنْ أبهرهُ:

-علَاشْ يَجبْ أن تَرحلْ ؟؟

علَاشْ ؟؟ علَاش ؟؟ علَاااشْ ؟؟؟

حينَ انتهيتُ من الصُّراخِ. كانَ فعلاً قَد رحلْ. وخيَّمَ الصَّمتْ.

عن أمل كاميليا

أمل كاميليا
كاتبة من تونس

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.