الصفحة الرئيسية / تجريب / عن تخمة الحُلم

عن تخمة الحُلم

وحش/كريس ماكماهون - CHRIS MCMAHON/MONSTER

حسين الماغوط

تجريدُ هذهِ الأجنحة من مرساتها يحتاجُ وقتًا طويلًا، أن تُقتَل مدينةٌ مازلنا أحياء فيها، ضرَبت حزنها حلو المذاق بقسوتها في صدورنا، زرَعتْ بِبرودٍ شتلات يأسٍ داخل أوردتنا، ثمنًا لابأسَ بهِ لِأبدأ بِبصقِ حقيقة طالما كُنتها.
حسنًا إذًا، يبدو أنّني كُنتُ نائمًا طوال هذهِ المدة ولم أستيقظ حتّى الآن، يبدو الأمرُ مُضحكًا قليلًا أنَّ اكتشافَ يقينٍ بسهولةِ النجاةَ دومًا والعيش جوارًا لِمجموعةٍ لا بأسَ بها من مراتِ نزف حُلمٍ مُرتقب بإعادةِ طلاءِ كُلِّ الحكي الفارغ المكتوبِ خلفي، فراغُ حكي يملأ الجدار حتى بدأ يتقيأُ تُخمةَ خيالاتٍ وتذكارات، يَقذِفُ كُلَّ يومٍ بِحُلمٍ لِتفترسه كُلَّ عُلبِ الشّرابِ الرخيصِ الفارغة صباحًا، مؤخرًا، اكتشافٌ بسيط، قلبٌ غائبٌ يقولُ أن هُناكَ شيئًا يُسمّى سعادة، اكتشافٌ ساذجٌ كَهولِ اكتشافِ النار.

تجريدُ هذهِ الأجنحة من مرساتها يحتاجُ وقتًا، مرساة صدئة تُثقِلُ كُلَّ محاولاتِ العيشِ هذه، أن نُقتلَ في مدينةٍ حيّة، تحتضِرُ على بقايا من غابَ عنها، تراقب بِصخبٍ كُلَّ سكيّريها، تُراقِبُ بحذرٍ كُلَّ محاولةٍ لِبحرها باللجوءِ إليها، بالهربِ إلى برّها والغفوِ في تشابُهِ حباتِ رملِ شاطئها الصغير، هذا عن الخوف بِأن يبقى غرقهُ بعيدًا، بِأن تنعكس زُرقتهُ كُلَّ صُبحٍ في سماء مِلؤها نشوةُ الطفو فوقَ حُلمِ يقظة أرِق.
هذا عن الخوف، خطيئةٌ نشتاقُ لِسُخفِ عيشها في بادئ الأمر، ثمَّ نعتادُ على نبضها بِملل.

سوى أننا ما زلنا نقتاتُ قليلًا من الموسيقى كُلَّ يوم، نروي على هذهِ الشتلات قِصصًا وحكاياتٍ حدثت حينَ كُنا نخافُ فعلًا، نخافُ الحكي والنبضَ بِحقيقةٍ والنومَ والحرية، قِصصٌ من وحي خيالٍ حالمٍ بِأن يبقى هذا الخوفُ دافعًا لِمحاولاتِ النّجاةِ المُستمرة، دافعًا حتى للتنفس والتقاط نفسٍ عميق يُثبِتُ لنا أننا مازلنا أحياء، قِصصٌ تنمو بها هذهِ الشتلات كُلَّ مرةٍ بِحجمِ ثقة البحر بألّا يلتقطَ سقوطهُ كوكبًا آخرًا، خوفٌ كهذا مُمتعٌ حقًا فيهِ الاستلقاء فقط، أن تستلقي بِجانبِ أحلامٍ رخيصة، تُمعِنُ النظرَ بِاهتراءِ طلاء الجدرانِ وتشققاته، في كُل شقٍّ مزروعة أُمنية ما، أمنية سجينة كَكُلِّ حُلُمٍ بِأن تعيشَ طريقَ البارحة اليومَ وغدًا وبعدهُ، تُشاهد نفسكَ تَذوب رويدًا فوقَ نفس الفراش، لِتُحاولَ حينها التمسُّك بِنفس طوق النجاة، بِنفس عتمة الممر خارِجَ جُحركْ.

سوى أنّنا ما زلنا نقتاتُ حُلمًا، شمعة احترقت ودُفنتْ بِرقصةٍ في صُلبِ شجرة، بِانعكاسِ مرآةٍ فارغة دومًا، يبدو حقًا الأمر مثيرًا للسُخرية من هنا، رؤيةُ استمرار الخوف في أعين جميع من نجى، رؤيةُ كُلِّ هذا بِحدقتين واسعتين، بِحجم كوكب.

الاختناقُ جوعًا للتدخين مثلهُ مثل الاختناق جوعًا لِقول شيءٍ ما، ذات البكم الصاخب يتكرر، البكم الذي يتكرر كما تتكرر موسيقى فيه، كما يتكرر حُلمًا جائعًا لِأن يبقى حقيقيًا.

هذا عن خوفِ مدينةٍ كاملة، خوفٌ بِأن تُقتلع رقصةٌ في رَطبِ صُبحٍ فارغٍ من جذرها، كُل هذا الأمر محضُ صُدفةٍ بِأن نبقى نُشاهد هذا الصُبحَ كُلَّ يوم.

سيبدو الأمر مُضحكًا عندما أحمل هذهِ المرساة وأُلقيها في بحرٍ آخر، في خوفِ مدينةٍ أُخرى، سأختصِرُ عيشًا بِموسيقا، قليلٌ من الحبرِ على ورق، كرسالةٍ تُكتَبُ وتُحرق فورًا.

عن حسين الماغوط

حسين الماغوط
كاتب من سوريا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.