الصفحة الرئيسية / تجريب / مقتطفات من رواية نجاة عبد الصّمد: “لاماء يرويها”
غلاف الرّواية

مقتطفات من رواية نجاة عبد الصّمد: “لاماء يرويها”

1/

لم تَصدُق بشارةُ أمي.
كنا أطفالاً نلعب الغميضة في عمرة الجيران، دفعني أخي ممدوح إلى عامودها، فجّ العامود رأسي، وركضتْ أمي على صراخي:
“هصصص. بدل أن تبكي هاتي البشارة، كلّ أرضٍ يسيل عليها دمُك يُكتَب لكِ فيها موطئ قدم”.
أربعون عاماً ولم تصدق بشارتها. ولم تكذب كذلك. خطأ صغيرٌ في القياس أزاح مصيري بضعة أمتار، من صدر بيت الجيران إلى غرفة الكَرَش في قعر بيت أهلي.
..

2/
في الليل تحلّ فيّ طاقة عالية ويغدو الله أكثر قرباً. الليل أنيسٌ طالما أنا صاحية. ضوءُ لمبة النيون الوحيدة يكفي لأرى كل ذرة غبارٍ تشاركني سكني، نسيجَ العنكبوت عند حافّة النافذة، بقعَ العطن على السقف والجدران، أنظّفها وتعود كالذكريات العاصية. من الجدران يأتي هسيسٌ ناعم، أخاله سرب نملٍ يحفر طريقه بين شقوق التراب،
لو تُعرّج النمال وتزورني لألقّمها من طعامي. أغفو فوق قصائد قباني، في الحلم أكون سمراءَهُ وشامَه وأندلسه. أفيق لأتريّض بين كتابين لجبران خليل جبران وطاغور عثرتُ عليهما وسذط أنقاض غرفة الكرش، أوراق الكتابين مفرفطة، لا بدّ أنهما كانا لأخي ممدوح، لم يكن أحدٌ يقرأ في بيتنا سوى ممدوح.
..

3/
وجعلتُ مهنتي انتظار ناصر، الشوق لندبة الجرح الفدائي فوق خدّه، غنّيتُ له كي يعود!
يا بو كذيلة منثّرة/ حاجة دلال وغندرة/ بليتني بمحبتك/ ما لي عليها مقدرة
بليتني برمش الهدب/ يا زين يا حلو الأدب/ ما ربي مثلك بالعرب/ ولا بقصور معمّرة
الآن، تخذلني الذكريات، لا تأتيني مرسومةً على البيكار، تهطل مشتتة وغاضبة، ومتزاحمةً وعاثرةً وملحاحة.
..

4/
أمس، تبرّعتْ خالتي بتلقيني ما يجب عليّ فعله بالحرف كي لا يُهان مجدُ أسرتنا: تستلقين، تسترخين، تفتحين رجليك، وتنتظرين.
حين ينتهي تنتظرين أيضاً حتى ينهض عنك. حينها تتشهّلين ليرتدّ الدم إلى القميص المثبت على الفراش تحتك، حين يرى خليل البقعة الحمراء سيضمّك ويقول “مبروك”.
بالحرف اتبعتُ وصية خالتي، بالحرف حدث ما وصفته كأنها ثالثتنا تحت عين النواصة، ما عدا الضمّة، ما عدا “مبروك”.
..

5/
أمشي فوق طريق التراب ربع ساعةٍ صعوداً حتى أصل حارة غادة لنكمل معاً الكيلو متر الباقي للوصول إلى مدرستنا. حارة غادة أعلى من حارتنا وبيوتها أحلى كساء وذوقاً والطريق أمامها مزفّت. أحياناً أستريح في بيتها في طريق العودة من المدرسة، تبتسم لي صورة مريم في الصالون، وتبعث رائحةُ البخور فيّ رهبةً لم تنكسر رغم دخولي المتكرّر إلى بيت
غادة، ولا أتآلف مع منظر السيجارة في يد أمها ولا مع رأسها المكشوف وتنورتها البيضاء القصيرة، ولا مع أريحية الحديث بين غادة وأمها كأنه سيالةُ حبٍّ تنثال من روح إلى روح.
..

6/
كلما ارتقى ممدوح عاماً في دراسته الجامعية، شحّت زياراته إلينا، وتقصقصتْ أطرافها. في عامه الأول في جامعة دمشق صعُب على أبي فراقُه. رجاه أن يعود كل أسبوع. في العام الثاني بدأ ممدوح يتملّص: “يتعبني الطريق، يُعمي عينيّ غبارُ التحويلة على طريق الشام”، ويعده أبي أن يشكو لرئيس دائرة (النافعة) هذا المتعهّد )الواطي) ليكمل تعبيد الطريق. ولم يكتمل زفتُ الطريق وصار ممدوح يغيب شهراً، يأتي من الشام في العشية ويغادر في الصباح مُزّوداً بمصروفه وكراتين محشوّةٍ بالمؤونة، وبالغلّة التي تدسّها أمي خلسةً في جيب بنطاله. تلك الخمسون ليرة، حصتي من حياكة الشال، حطت في جيب ممدوح.
..

7/
في ليلةٍ يضيئها قمر دمشق هبّ سالم من فرشته كامل الصحو، رشق وجهه بالماء وانطلق بين مشيٍ وركضٍ وهذيانٍ إلى جناح الشيخ المقيم في حرم الجامع: “نادِ الإمام لأقصّ عليه رؤياي”.
حضر الإمام صامتاً حتى يرى ما يكون، وساكنو الجامع كلهم حضروا، يقلّبون، بكامل صحوهم، ما سينجلي عن مفاجأة هذا الليل بسالم الأخرس.
بإلحاحِ مَن عاد إليه الصوت بعد غياب سنين، وبثقة مَن أبلى عمره في مهنة الكلام، خطب سالم أمام المحراب عن هسيسٍ أتاه من المرقدين الجارين، عن رؤيته رأسَ الحسين المقطوع يشكو لجاره وحشتَه، ورأس المعمدان يجيبه حزيناً كعاشقٍ مهجور:
“يا جاري، يا رأس المعمدان، أنا لا أنام. لو أعادوني إلى كربلاء لنمتُ، لو أعادوني إلى مكّة لنمتُ، لو تُرِك القطا لنام”.
“يا جاري يا رأس الحسين، كلانا لا ننام، لا ينام وحيدان لم يعد لهما من فسيح الأرض سوى مرقد رأسين”
من جورة حزنه، رفع المعمدان رأسه المقطوف واسترسل في روي حكايته، كأنه منذ ألفي عامٍ ينتظر مَن يسمعه:
“شبيهان نحن يا صاحبي، يا حسين، كلانا أحببنا الله وكلانا خانه أهلُه. أنا يحيى، يوحنا الذي أحبّ الله، رأيتُه على صورة امرأةٍ متينةٍ وطويلة كالسروة الجبلية. كنتُ وحيد أمي، وكان الملك رأى في منامه أن طفلاً فقيراً سيرث مملكته فأطلق جنده ليقتلوا كل طفلٍ فيها. ألبستني أمي ثوباً من وبر الجِمال وشدّتْ على وسطي حزام جلدٍ وهربتْ بي. تاهتْ فانشقّ لنا شعبُ الجبل واختبأنا. جفّف الخوفُ حليبها فدرّبتني على أكل الجراد والعسل، بردتُ فجمعتْ من أجلي عيدانَ الشجر. وضعتِ الأعواد الصغيرة تحت الكبيرة وأضرمت فيها النار. سألتُها: “يا أمّاه، لماذا لا تشعلين النار في الأعواد الكبيرة”؟ قالت: “الصغيرة تشعل أسرع”. ركضتُ إلى قمّة جبل يهوذا وصرختُ: “يا ويلتا، أنا الصغير، يا ويلتا من النار”، أوقفتني البدويةَ ذاتُ الخمار، عرفتُها، الأنبياء مكشوفٌ على بصائرهم، هي الأميرة إربل بنت الملك تتنكّر بزيّ بدوية. إربل، أجملُ بنات الأرض، نادتني: “أريدكَ يا يوحنا”. سقط قلبي عند ركبتيّ، لا يبوح الأنبياء بعصيان قلوبهم. صاح النبي فيّ: “يا ويلتاه من جبل النيران وجبّ السكران ووادي الأحزان”. صرختي أبكتْ أغنام البدوية وأبكتْ أمي. أمرني ربّي أن أتبع أمي وحدها، لا يُغضِب الأنبياء أمهاتهم. أخذتني أمي إلى الصباغ ليعلّمني مهنته. لحقتْ بي البنتُ البدويّة: “أريدك يا يوحنا”، أجبتها: “غوري، لا أطيقكِ”. كذبتُ عليها لأرضي ربي. رأيتُ في عينيها نيّة قتلي، ناولتْني ثوباً أبيض لأصبغه لها بالأسود، غمستُ ثوبها في الخابية السوداء، صرختْ: “ويلكَ أفسدتَ ثوبي، كنتُ أريده أحمر”. ضربني الصباغ: “قد أفسدتَ عملي”. طمأنتُه: “لا تعجل يا أبتي. سأخدم كل زبونٍ بما يرضيه”. كنتُ أعرف أن الله شفيعي ما دمتُ أرمي قلبي كحبّة زبيبٍ يابسة، خرجَ ثوبُها من الخابية السوداء أحمر اللون. جنّتْ البنت، “لم يعجبني، أريده أخضر”. غمستُ ثوبها في الخابية السوداء فخرج أخضر. قالت: لم يعجبني. أعده أبيض كما كان. خرج ثوبها من الخابية السوداء أبيض. جنّت البنتُ، قالت للصبّاغ: “أجيرك هذا ساحرٌ شرّير”. طردني الصبّاغ وبعثتْ البنتُ خلفي سبعة جنودٍ رُماةً مهرة. ليتهم اصطادوني وأسالوا دمي ساخناً بالحبّ، مرّت سهامهم على يميني وعلى شمالي وأخطأتني. نزلتُ إلى مسال النهر، غمرتُ نفسي فيه لأبرأ، ليشهد الناس كيف تُغسَل خطايا القلوب، صار اسمي المعمدان. لم أشرب الخمر ولم أسكر ولم أتزوّج ولم أنس إربل، حوّلني الله وحياً يجيء في منام النساء ويفقن منه هانئات. إلا إربل بنت الملك؛ تراني في منامها أقودها للاغتسال في ماء النهر، وإربل لا تريد الاغتسال، تريدني أنا، سارق نومها وهنائها، شكتني إلى أمها الملكة فلم أهربْ وقد كان بوسعي، كان وصالُ ابنتها أقصى رجائي، وكانتْ يد الله فوقي تريدني نبيّاً لا عاشقاً. حبستني الملكة إلى أن يعود زوجها الملك من الحج وترتّب لي ميتةً تليق بعصيان الفقير لأمر الملكة. بعث الملك رسولاً لزوجته أنه عائدٌ من الحج، نادت ابنتها: “يا حبيبة أمك اجمعي أجمل بنات مملكتنا واحملن المشاعل ولاقين بها والدك الملك العظيم”. عانق الملك ابنته: “ما رأيتُ ولا تخيّلتُ ما يسُرّ قلبي مثل استقبالك البهيّ يا إربل، تمنّي ما شئتِ مني حتى لو كان نصف مملكتي”. تأنّت البنتُ، قالت: “أروح إلى أمي الملكة العظيمة أسألُها”. “اطلبي منه رأس يوحنا المعمدان على طبقٍ من ذهب”. ما كان طلبَ الملكة وحدها، كان رجائي أنا أيضاً، تعبتُ من عذابات الأنبياء العاشقين، أهديتُ السيّافَ رأسي ليقطفه ويعطيه لإربل، قلتُ سيدفأ جبيني بدمعتها وخدي بلمستها قبل أن يبردا بفعل الموت، قلتُ بموتي سأقوى على النظر في عينيها بلا خوفٍ من عقاب ربي ولا اضطرارٍ للاغتسال من حرارة نظرتي بماء النهر، قلتُ سترى إربل عينّي بعد موتي وتفهم.
جاؤوها برأسي على طبق الذهب، ببرودٍ تناولتْه، لم تنظر إربل إلى عينيّ، بحيادٍ سارتْ برأسي إلى أمها وسرتُ في نعيمي بامتداد يديها وسادةً لرأسي المقطوف وإن كان يفصل بينهما طبق الذهب. لم تنبسْ إربلُ حين غرستْ أمَّها الملكة الأبر في لساني وأسلمتْ رأسي إلى الجند يطوفون به في أسواق الشام. فار الدم من ثقوب الأبر في لساني ودوّخ الآلاف وصرع الآلاف وجنّن الالاف، دمي أهلكَ سبعين ألف نفساً من أهل الشام.
..

8/

انطوتْ خمسون من عمر أبو كمال، وطوتْ معها التهديد بنفيرِ السّوق إلى الخدمة العسكرية. لن يصبر يوماً إضافيّاً في بيروت. أذبله الباطون ولم يذبل حنينه إلى أرض الحجار السود. ناصر وحده من بين أبنائه يرفض الرحيل إلى بيتهم )المُلك( في السويداء. لو يقدر فضل الله على فكّ عجمةَ هذا الولد العاطل، لو ينبش صدره ليفهم:
هل بيعُ الشاي في الضاحية أبقى له من عائلته؟
” قد صار لي عائلة . أنا فدائيّ يا أبي”.
..

9/
شمّر مرهج أبو شال عن ساعديه حين علم أن أرملة عمّه عزّات تنام على ليرات ذهب وراح يخطب ابنتها ذهبيّة، ورحّبتْ به أمها فهو ابنُ عمها والظفر ما بيطلع من اللحم، ثمّ إنّه أول خاطبٍ يطلب ابنتها. وذهبيّة قالت: لا أطيقه، هو لم يسأل مرّةً عنا في يتمنا، وكان
كلما رآني في الطريق عيّرني “ذهبية النوَريّة”، ولم يصدّق مرهج أنّ ذهبية اليتيمة تجرؤ على رفضه. هل كانت تحلم أن يكمّ أنفه ويخطبها لولا ليراتها؟ هو مرهج، أوّل شابٍّ توظّف في دائرة “النافعة” في السويداء، ولا ينقصه ليعلو فوق أهل مرج العكوب كلهم إلا بيتٌ مُلك في المدينة.

10/

ليس في السويداء ولا قراها نهرٌ دائم الجريان يُدغدغ أرضها، يُرخّم في الليل مواويل الهجيني والعتابا والشروقي والجوفية والهولية لتهدهد الحزن القديم على سواد بازلتها. وليس فيها بحيرة طبيعية تلوذ إلى شاطئها الجنيات الهائمات في الليل مذعورات من قسوة صخر اللجاة، وليس فيها ينابيع تفور من بأن الأرض، يطرطش ماؤها أرجلَ الصغار المستعجلين أن يكبروا ليأالوا نجماً هادياً في سمائها الضالّة.
..

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.