الصفحة الرئيسية / نصوص / رأي / حازم العظمة: الشاعر المتأخّر يتنفّس هواء سوريا جديدة – خليل صويلح

حازم العظمة: الشاعر المتأخّر يتنفّس هواء سوريا جديدة – خليل صويلح

نذهب إلى حازم العظمة، كما لو كانت الزيارة نزهة خلوية. ذلك أنّه اختار مكاناً نائياً عند تخوم البادية، جنوبي مطار دمشق، كي يبني بيتاً ريفياً، حين قرَّر منذ نحو عقد ونصف العقد أن يهجر المدينة، ويعيش في الخلاء. ليس ما يعكّر صمت المكان، سوى أزيز طائرات مغادرة، تعبر فوق رؤوسنا، بين صمتٍ وآخر. هناك الكلاب أيضاً، التي تحوم حول الزوّار بإلفة، وقد أهدى إليها أسماء بعض أعزّ أصدقائه من الشعراء في نوع من التحية العابثة.
الشاعر الذي ظهر فجأة، باغت الجميع بتلك النبرة المتفرّدة في قصائده. رغم انتسابه زمنياً إلى جيل التسعينيات، هو في الواقع، شاعر متمرّد، سواء في سلوكه اليومي، أو في معجمه الشعري المتفلّت من المواصفات الجاهزة لمجايليه. هناك نفحة بريّة جامحة، لعلّه التقطها من محيطه المفتوح على رحابة الصحراء. قصائده مسكونة بأسماء نباتات وصخور، وبراكين ونيازك، فهذا شاعر «يسوق أحزانه إلى حواف التلال» تبعاً لعبارة وردت في إحدى قصائده المبكّرة. لكن كيف أتى هذا الطبيب المتخصص في أمراض الصدر إلى الشعر؟ ولماذا أتى متأخراً إلى هذا الحد؟ «كتبت أولى قصائدي في منتصف الستينيات، ثم توقفت طويلاً، إلى أن دهمتني الكتابة عنوة في الثمانينيات، ونشرت قصيدة «حقل قمح» في «السفير» البيروتيّة، وانهمكت بعدها في كتابة محمومة، أقرب إلى الهوس، من دون أن أفكّر إلى أين ستقودني هذه الحمّى». لا يرغب حازم العظمة في استعادة تفاصيل نشأته الأولى، هرباً من «عراقة العائلة». فهو ابن بشير العظمة رئيس الحكومة في سوريا مطلع الستينيات، وصاحب كتاب «جيل الهزيمة». كذلك ينتسب إلى سلالة يوسف العظمة، وزير الحربية في سوريا الذي استشهد في «معركة ميسلون» أثناء مقاومته الجيش الفرنسي الداخل لاحتلال البلاد في عشرينيات القرن المنصرم، «كي لا يقال إنّ الفرنسيين دخلوا سوريا من دون مقاومة»، بحسب عبارته الشهيرة.
حازم العظمة مقاوم على طريقته. يتذكّر أنَّه خرج في تظاهرة من «مدرسة ابن خلدون» ضد حكومة والده، فطرد منها إلى «مدرسة جول جمّال». النفحة اليسارية التي تلازمه إلى اليوم، انطلقت شرارتها من مقالة هجائية ضد كارل ماركس، قرأها في صحيفة «البعث» مطلع الستينيات. «هذا الهجاء حرّضني على قراءة كارل ماركس ـــــ يقول ـــــ هكذا ذهبت إلى «مكتبة دمشق» التي كانت تُعنى بنشر الفكر الماركسي، وأحضرت الأعمال الكاملة لصاحب «رأس المال». غرقت في قراءة هذا المؤلف زمناً، وبعده انكببت على مؤلفات أخرى، بمتعة هائلة، ما زالت ترافقني إلى اليوم».
الشاعر الذي دخل مجال الطب، في بيت يقدّس العلم، وجد ملاذه أخيراً في الشعر، بعدما أغلق عيادته الطبية، واختار عزلة تتيح له اكتشاف ألوان الطبيعة من دون روتوش، في علاقة رعوية مرتجلة، ونكهة حداثية. لا يتردد في مزج مفردات الطبيعة بأنواع المعادن، تبعاً لمزاجه الشعري، واكتشافاته اليومية بما يشبه حالة الرسّام في إخفاء قماشة ألوانه، وسطوح لوحته، ووعورة خطوطه. يرفض صاحب «قصائد أندروميدا» ما يسمّى الشعر اليومي الذي يتهمه بالإفراط في السطحيّة: «الكنبة، والكرسي، ورفوف المطبخ، لا تصنع قصيدة… ينبغي أن تحيل إلى سطح آخر، قابل للتأويل»٫ يعلّق. ثم يضيف: «إذا لم يكن الشعر ورطة كاملة، فهو إنشاء نافل، لا يعوَّل عليه».
عند هذه النقطة، يعترف حازم العظمة بفضل سعدي يوسف على توريطه في الكتابة على نحو أعمق مما هو سائد، خصوصاً في ديوانه «مريم تأتي». ويعترف بفضل آباء آخرين مثل نيرودا، وإيلوار، ومحمود درويش، وحتى امرئ القيس، من دون تعصّب لتيار شعري محدد. «لا توجد وصفة لتجديد ما هو شعر وما ليس شعراً، فالحداثة الشعرية تتمثل بطول الإقامة، وإلا فما تفسير رسوخ عبارة امرئ القيس «بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه» في الذاكرة إلى اليوم؟». هذه الفرادة في قصائدة نبّهت النقاد إلى حساسية شعرية سورية مختلفة.
لعلّ هذا ما جعل صبحي حديدي يراهن على هذه التجربة التي وجد فيها «لغة شعرية منسرحة، طليقة عابثة في نماذج عديدة، مهجّنة في نماذج أخرى على نحو عشوائي مزاجي، ومن بين أفضل محاسنها أنّها تُعنى بتغريب اللفظ عن مدلولاته، وتشريد المعنى المألوف أكثر ممّا تُعنى بالتسابق على نبش المستطرف أو تسخير القاموس لصالح المجاز المبتكَر. وهنالك هوس التجريب المفتوح الذي يبدو بلا ضفاف حقاً».
لكن مقترحات هذا الشاعر لم تستقبل بحفاوة نقدية، رغم أنّه راح يطعّم نصوصه بنكهة أعشاب برية، تفضح على الضفة الثانية تجارب الأزهار الاصطناعية التي غزت واجهات المكتبات. وكانت مجموعته الثانية «طريق إلى عراس» مفاجأة أخرى في تأصيل «اليُتم الشعري» الذي سعى آخرون إلى تمثّله بخديعة بلاغية مكشوفة، تفتقد الطاقة التصويرية المحتشدة، والمجاز المبتكر المتحرِّر من الأعراف. فالقلق الشعري إحدى مزايا هذه المغامرة التي تهبُّ إلى الجهات كلِّها، هذا ما نجده في قصائد مجموعته الشعرية الثالثة: «عربة أولها آخر الليل» المنتظر صدورها عن «دار الريس»، وهو ما انفك يحذف ويضيف إليها، ريثما ترى النور.
انضمّ حازم العظمة متأخراً، إلى «جنة الفايسبوك» ودخل على الفور في سجالات ساخنة، وإذا بصفحته تستقطب حوارات ونقاشات، تتجاوز ما هو شخصي إلى الشأن العام، إلى نصوص جديدة يختبر خلالها كيفية إصغاء الآخرين إلى ما يكتبه. فهو واحد من أولئك الذين وجدوا في الاحتجاجات السورية مجالاً حيوياً لإعادة تعريف المواطنة، ومعنى أن يكون المثقف حاضراً بقوة، في مواجهة العنف، حتى لو كان هذا الفضاء الافتراضي «لا يصنع حياة ملموسة على الأرض». هكذا بات يجلس ساعات طويلة أمام الإنترنت، يكتب أفكاره، ويومياته، ورسائله إلى الآخرين، بجسارة لا تضع حساباً أمام قوائم التخوين والإقصاء والإلغاء التي يفوح بها الهواء السوري هذه الأيام. لا يشك حازم العظمة لحظة واحدة، بولادة سوريا جديدة، بهواء مختلف.
——- 
عن الأخبار 

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.