الصفحة الرئيسية / زوايا / عتبات الحرية - روزا ياسين حسن / حرب الشائعات في سوريا: “غياب للإعلام، غياب للغة العقل والتفكير”

حرب الشائعات في سوريا: “غياب للإعلام، غياب للغة العقل والتفكير”

425288_10150582722961231_642536230_9545423_1413275391_n11روزا ياسين حسن
خاص بدحنون

 

      حين سيطر الثوار الليبيون على بنغازي، أثناء الثورة الليبية، كان الخبر بمثابة حقيقة لم يشككك أحد بمصداقيتها. فكاميرات وسائل الإعلام المحايدة، أو المحترفة على الأقل، والمراسلون على الأرض، والميدان الثوري (المكشوف)، يجعل الشائعات تضمر حدّ الاضمحلال، فالشائعة لا تنمو إلا في مناخ آسن مظلم وثمة قذارات لتتغذى عليها. حقائق ميدان التحرير كذلك وقصصه، وميدان التغيير في اليمن وغيرهم. لكن المناخ المغذّي للشائعة، ذاك الذي تغوص سوريا في مستنقعه اليوم، يختلف عن الأوضاع السابقة التي ذكرتها. ومنذ بدء الثورة أضحى الظرف معدّاً لتفشي هذا الوباء الجديد، حتى يبدو وكأن السوريون جميعاً، وخصوصاً الأقليات منهم وتلك الشريحة التي تسمى الصامتة أو الخائفة أو أياً كان، أصيبوا به وسط مناخ غير صحيّ البتة، مليء بالعنف والموت حتى ليجعل تحكيم لغة العقل أمراً صعباً في الوقت الذي تسيطر فيه لغة الدم.

لكن الشائعات التي تقود عجلة التفكير وردود الأفعال اليوم ليست بجديدة كلياً على سوريا، فالجدران العازلة غير المرئية، التي عملت الديكتاتورية على تغذيتها يوماً بعد يوم، بين طبقات وشرائح وطوائف وأديان ومناطق المجتمع السوري جعلت الآخر مجهولاً، والمجهول مثير للخوف والارتياب دوماً. هذا ما جعل الأكثرية تمتلك شائعات غريبة عن الأقليات، ودفع الأقليات لاتخاذ موقف من الأكثرية أساسه الخفي هي الشائعات. هذه الجدران العازلة أثمرت اليوم جاعلة من الشائعة مصدر الحقيقة شبه الوحيد، ومصدر المعلومة، والسبب الأساسي لردود الأفعال الغريزية التي تنمّ عن الكثير من السوريين، وتزكي النار أكثر تحت قدر الحرب الأهلية التي من الممكن أن تستيقظ وحوشها في أية لحظة.

فراس مثلاً شاب من جرمانا (وهي مدينة في ريف دمشق) يعمل سائق تكسي، وقد قتل قبل أن يبلغ الثانية والثلاثين من عمره. فراس ليس الشاب الوحيد الذي يُقتل بدون أن تُعرف الجهة المسؤولة عن قتله، لكنه مات في كفربطنا (وهي بلدة معارضة في ريف دمشق أيضاً) وهذه هي المعلومة الوحيدة المؤكدة.. حينما أتى نبأ مقتله كانت الشائعات التي وصلت أهله أنه قتل بيد الثوار المتطرفين لأنه من جرمانا!! وهبّ  بعض شباب حيّه، المتطرفون أيضاً، ليأخذوا بثأر دمه من أهل كفربطنا. لكن بعد ساعات قليلة وصلت شائعة مغايرة تقول إنه قتل على حاجز الجيش النظامي في بداية البلدة، أي بيد عناصر الأمن! ثم راحت الأخبار تتوالى إلى أهل جرمانا بأن فراس قتل بالسكاكين وقطّع قطعاً، وبدأت القصص تنتشر عن رسائل تهديد لكل شباب جرمانا بمصير مشابه لمصير فراس.. وهلمجرا. وحدها جثة فراس الشابة والمسجاة على طاولة في منتصف صالون أهله والرصاصة المستقرة في عنقه هي الحقيقة الوحيدة في كل ما حدث.

سوريا تغرق في مستنقع من الشائعات، هذا ما هو عليه حال البلد اليوم. قصص المواليين مفادها أن الثوار المتطرفين سيأتون ليقتلوهم، وأن معظم القتل والخراب الذي يعمّ البلد اليوم ممهور بتوقيع الثورة. وقصص المعارضة التي تتباين تماماً معها، وتتلخّص بأن الأمن والجيش والشبيحة يقتلون، والموالين يدعمونهم سواء بصمتهم أو بعملهم المضاد للثورة. وعلى الرغم من أن كثيراً من الصور والفيديوهات التي تأتي من المناطق المشتعلة تظهر أجزاء من الحقيقية، إلا أن الغياب شبه كامل لوسائل الإعلام المحايدة والمحترفة يمكن النظام وأعوانه من التشكيك بهذه الحقائق المنقولة من الأرض، كما حدث مع الثورات الأخرى. ووسط محاولات لشرخ الوطن أكثر مما هو مشروخ، أطلق النظام السوري، عبر أدواته من الأمن والشبيحة، حرب الشائعات، منها ما يقصد شرخ المجتمع أكثر، ومنها ما يقصد تكريس الرعب للسيطرة على المجتمع، ومنها ما يكون لجسّ نبض الشارع فحسب. قبل أسابيع مثلاً انتشرت شائعة بأن هناك تفجيراً أضخم من تفجير القزاز سيحدث في مكان ما من دمشق، الأمر الذي جعل الكثير من العائلات تمتنع عن إرسال أولادها إلى المدارس، ولم يحدث شيء يومذاك. وحينما قدم كوفي عنان انتشرت الشائعة ذاتها حتى أن الكثير من الموظفين لم يذهبوا إلى عملهم، وكذلك لم يحدث شيء. وهذا لا يعني بأن ذلك التفجير المخيف القادم قد لا يحدث في أية لحظة وفي أي مكان.

تتنوّع الشائعات ليبقى كنهها واحداً، أساسه السيطرة على المارد الذي انفلت من عقال الطغاة وذهب راكضاً نحو الحرية. ولا أعتقد أن أدوات النظام وحدها المسؤولة عن الشائعات التي تتخم البلد بل ثمة أطراف أخرى، ولأسباب شخصية بحتة، تطلق الشائعات أيضاً. كذلك يبدو أن الكثير من الشائعات أساسها الناس أنفسهم، ولأسباب كثيرة أهمها جهلهم ببعضهم، وخوفهم من بعض كما سبق وقلت، وابتعادهم عن التفكير الهادئ والمتأني وسط سعار الموت والخراب المحيط.

ثمة حادثة أخيرة أجدها معبرة للغاية عن الحالة التي يعيشها الكثير من السوريون اليوم، ففي إحدى الدوائر الحكومية في دمشق كان ثمة سيدة ترتجف وهي تسرّ لزميلتها بـ (معلومة مؤكدة) مفادها أن ثمة قواعد صواريخ بعيدة المدى يملكها المعارضون ومتمركزة في بلدة داريا (وهي منطقة معارضة للنظام في ريف دمشق) وموجهة جهة المزة 86 (وهي منطقة موالية له) متأهبة لقصفها في أية لحظة. كان ثمة تسليم بحقيقة الخبر يرشح من عينيها المرتعبتين، ورجفة خفيّة تنبئ بحجم الخوف الذي تولّد لديها هي المقيمة في مزة 86.

    “ولكن إن كانوا يملكون صواريخ بعيدة المدى فلماذا لا يقصفون القصر الجمهوري مثلاً.. أو لماذا انتظروا حتى اللحظة ليقصفونكم؟!”..

همست زميلتها متلفتة حولها كي لا يسمعها أحد. الأمر الذي جعل ناقلة الخبر (المؤكد) تصمت. ولا أعرف إن جعلها ردّ زميلتها تفكّر بتفكيك ما نقلته، أم أنها كانت تتهمها، في قرارة نفسها، بأنها تدعم الثوار برأيها هذا، أم أنها كانت تشتم زميلتها التي لا تشعر بالخطر القادم من (الجماعات الإرهابية المسلحة) التي يذكرها الإعلام الرسمي كل يوم مئات المرات، هو المسؤول الأول عن حرب الشائعات المسعور الذي يعمّ سوريا!!

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.