مدينتي….

نجاة عبد الصمد
خاص لدحنون

 

ساكنةُ هذي المدينة؛ مأهولة وعامرة، وفي هناء ليلها تنام تغفو على أهزوجة تمجّد الجدود، تصحو على ترنيمة الصباح: نعوة أو اثنتين أو أكثر؛
خبر موت يذرذر في سمائها شحرقة الرماد ولذعة القرّاص وحكّة الأسئلة …
تستمع المدينة ببالغ الأسى، لكنها لا تكترث!
تنفتح الشبابيك والآذان للصوت وارتجافة الصدى…

(القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، وآل فلان وفلان ينعون إليكم شهيد الوطن، ملازم الشرف ، البطل..)
وتسهو فلا تسمع تتمة الكلام: ثكلاه فلانة، أرملته فلانة ،أيتامه فلانة وفلان وفلانة…
ولا تسمع الناعي يقول: قضى الفقيد من خيباته عشرين أو أكثر قليلا،
ولم يزل له في ذمة الدهر خمسون أو ستون أملا فائضا لم يعشها هو و لم يطالب بها أحد !
ولا تسمعه يقول: سيدفن في مرجةٍ صغيرة كان حرثها قبل الرحيل ليعود في إجازة ويجعل منها مسكبة للفرفحين وللنعناع.
ولا تصغي لصوت النعوة ينوس قليلا: استدان الفقيد من أهله جنى العمر ولم يقرضه عمره المقصوف أيّ جنى!.
واستدان من حكومته وظيفة شاغرة ، ومن دمه سدّد الدّين الحرام…

وينوس الصوت أكثر: عواضكم على الله وعلينا.
ديّته: (كذا مائة…) ألف ليرة سورية (حوالي ٦٠٠٠ دولارا) تقدمة ٌ للأسر المضحية بعمادها !

أسرٌ صار عديدها مئات تنتظر دورها لنيل ديّاتها …
وصل الدور إلى الشهيد رقم (٥٠) منذ أيام …
استلم أهله ـ كمن سبقوهم ـ المبلغ مخصوما منه حوالي (١٠٠ ألف) ليرة؛ تستوفيها الجهات المختصة سلفا لقاء مصاريف التشييع والدفن.

يتساءلون بحسن نيّة: ولماذا يخصمون؟!
لا يعلمون كم تتكلّف الحكومة على أبّهة هذي الجنازات، لا يعرفون كم تساوي أثمان الرصاص الحيّ الملعلع فرحا في عرس الشهيد وأجور فرقة المراسم وهي تعزف النشيد الوطني وموسيقى الشهيد وأجور(المتطوعين) من (اللجان الشعبية) للحداء اللائق بالموكب البهيّ وتكبير صورة بالطول الكامل تتصدّر موكب المحتفى بشهادته وبنزين السيارات والموتورات وأجور سائقيها وثمن لافتات وزمامير، ونثريات أخرى…

مصاريف ، ونثريات تشغل البال فتطغى على همهمة خافتة تتسللّ من شقوق التابوت المغلق على الجثمان الكئيب.
الجثمان المتيبس البارد المغمّس بالوهم. الجثمان المحموم بدمه ودم إخوان له ماتوا معا مشتبكين كأعداء.
جثمان ـ ربما ـ لو بقيت فيه بقية من رمق لغادر الحفل البهيج مكتفيا بميتة واحدة.
لمضى ـ ربما ـ صوب حلمه بمسكبة النعناع ، راغبا لو لم يكن في عمره القصير هذا الفاصل الخاطف بين حرث المرجة الصغيرة وعودته لينام تحتها.

 

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.