الصفحة الرئيسية / زوايا / نهار المدينة

نهار المدينة

نجاة عبد الصمد
خاص لدحنون
24/8/2012

 

ابنة هذه المدينة انتِ!
تسيرين في ابتداء نهارها، تحكّين بخطوك الكابي زنجار قلبها؛ فتقلقلين صباحها اللامبالي…
تهمسين للرمانة الذابلة في حديقة منزل على يسار الطريق، هاجر أصحابه مطلع هذا الصيف:
ـ صباحك خيرٌ يا حاملة الجلنار!
أما آن ـ و قد صرتِ وحيدةً ـ أن تنتمي لباقات الأحمر الزاهي المنساح كذبائح العيد على أرصفة البلاد؟!
تتمنين لو تعرفين لغة الشجر، لو تعرفين الجواب…
تسيرين على الأرصفة الخاوية سوى من جثامين أغصان بعثرها أمس صاحب محل الزهور. كان على عجلة، و لم يتمكن ـ كعادته دوما ـ من حملها إلى حاوية الزبالة القريبة. بالكاد استطاع شلع رؤوسها الحمراء و تصفيفها على هيئة قلب عاشق يزيّن خلفيّة سيارة العروس السعيدة لتكتمل بهجة عرسها بائسِ التوقيت بين مجزرتين في قرى درعا المنحورة على مرمى السمع …
تتابعين السير بين السائرين بأمان إلى أشغالهم.
تستوقفك اللافتات الإعلانية الأنيقة عن حفلات غنائية في المطاعم أقيمت في أيام العيد…
تستوقفكِ ورشات العمارة التي تلد طابقا كل عدة أيام ؛ إنه زمن البناء! لا أحد يحتاج إذنا من مسؤول، يوقف متعهّدُ العمارة قافلةَ السير في اوقات الدوام إلى أن تُفرغ سياراتُ الاسمنت الجاهز حمولتها على السقف الجديد، لا هو يخجل، و لا يجد شرطيّا يردعه، ولا ينتظر من مواطن أن يشتكي …
و تسيرين ـ على مهل ـ تسيرين .
يثقل رأسك قليلا قبالة مبنى الحكومة الآمنة خلف حاجزها الاسمنتي الحديث، واثقة أنه يحميها منك و من إخوتك، ليتسنّى لها من خلفه تسيير شؤون العباد بعدالة استثنائية … و قبالة المبنى تمثال يشمخ تمثال قائد الثورة السورية الكبرى. كأنه اليوم منكفئ في وحدته، و في خيبته، فلا يهشّ عن سور حديقته أجسادا ضخمة مسلحة لن تتورع عن إشهار عصيّها الكهربائية لو تهدّد أمن الوطن بفوضى المواطنين!
تسيرين . صرتِ في بطن المدينة.
ينكسر كعب روحك في أول شارع ” الشعراني”…لا تتلقفك أرض و لا ينبري لالتقاط رجائك فضاء …هنا خارطة أخرى لم تألفيها بعد!
أطفال غرباء بوجوه كهلة و خدود ناتئة يتسولون. نساء و رجال لا تأخذهم وجهةٌ محدّدة… يتدافشون و لا يبالون .
رجال شرطة يتسامرون بهدوء و لا يلتفتون إلى شجار يدبّ بين رجلين، أو إلى مكبر الصوت ينعى شبابا ماتوا اليوم بحادث أليم …
لا أحد يصغي إلى أحد.
وحدهم بائعو اليانصيب و العلكة و الجريدة اليومية يصغون …كم تكاثر هؤلاء؛ و كم تغيّروا!
صاروا ضخاما خبيثي العيون …و صاروا سادة السوق الجديد النابق في حرم الشارع . سوقٌ متكامل ٌجوال يعرض كل ما تحتاجه الأسرة من مبتكرات الصين المدهشة.. انتشرت عربات لم تكن هنا من قبل؛عربات كثيرة تبيع الخضرة و الفاكهة وبزر البطيخ المحمص لتسلية الليل الطويل، والعسل البلدي النقي (بشهده)( الكيلو بمئتي ليرة ) و المارلبورو الأصلي منتهي الصلاحية (الباكيت بخمسين ليرة) يجرب المدخّن المبتدئ سيكارة من باكيت مفتوح لم ينخره السوس فتروق له (باكيت التجريب مختلف؛ مستقدم من “غوته”).
يستوقفك مشهد مراهق يفرش النظّارات على كرتونة يغطيها بشرشف يشبه البرداية التي اشترتها والدتك من البالة منذ أكثر من ثلاثين سنة لتستر بها شباك غرفة صغيراتها ( أنت و أخواتك). تشمين تلك الرائحة البعيدة و تجزمين أنكن كنتن أكثر براءة من هذا الماكر الصغير الذي يصيح بيقين:
(ـ أصليّة النظارات …للشمس النظارات: 125 ليرة النظّارة… كل الألوان .. كل القياسات… 125 ليرة)
أصليٌّ هذا المارلبورو!.. أصلية هذه النظارات… كرقابة التموين… كالعيد الذي مضى بهيجا مبهجا… كهرج هذه المدينة!
يطويك جوف الشارع … ألم حارق في المعدة المنقبضة ، يزيده صخب الموسيقا المحتفلة بافتتاح محل لبيع الذهب، تكاد تغطي واجهته بوكيهات وأصص الورود المهنئة بالمشروع الحضاريّ. يجلس أمامها صبي يافع. إنه بائع اليانصيب الذي تعرفينه طفلا يكبر على هذا الشارع منذ سنين، يركله اليوم بائع جديد و يشهر أصابعه في عينيه بحركة بذيئة، فينكمش الصغير ويخفي صوته ودموعه.

تصيرين في مواجهة ساحة ( الرئيس). تتأملينها بروحك الممغوصة.
يلفتك صبيٌّ، ابن عشر سنين! ينتحي بعربته العالية بعيدا عن أخواتها، يرتّب عليها الشحاطات ، يتناوق أقصى ما يستطيع كي لا يختلّ انتظام الفردة اليمين بجانب الفردة الشمال … و هو يغني:
كتبنا و ما كاتبنا ..و ياخسارة ماكتبنا
يتابع صفصفتها بشغف مهندس معمار، و يستمر يغني: كنا نبعتلو مكتوب يبعث مكتوبين…
و لا يسوم بضاعته أحد…
صوته جميل ، بُحتّه أكبرمن عمره، و أطول من عربته ، و قادرةٌ أن تبعث فيكِ الفرح حدّ أن تعلنيه في سرك: أمير الباعة الجوالين لهذا الصباح!
تغيم عيناك في ظلال صبايا غريبات ، تسافرين في عيونهن الحزينة و في ازيائهن التي لم تألفها هذي المدينة بعد …حجاب و عباية و برقع.. وافدات في سياحة قسرية ستطيل مقامهن في ربوعنا التي ـ و لله الحمد ـ لا تغلق أبوابها في وجوه الغرباء…صبايا في ألق العمر و خواء الجيب . متسمرات أمام عربات الزينة النسائية…يتفرجن على الأقراط و الأساور و الخواتم …يتفرجن على كل زينة لازمة و فائضة … يعجبهن كل شيء؛ و لا يشترين شيئا!… يتحسسن جيوبهن و ينصرفن خائبات.
و تتابعين السير بكعبك المكسور.
تتراخين . تسندين جذعك إلى حافة الساحة . أنت الآن في قلب المدينة … تستديرين بعينيك صوب جهاتها الأربع: هل حقا تعرفينها؛ و أنت ابنتها بأمارة الولادة و النشأة و الإقامة و التكوين ؟!
و يقرصك سؤال بريء:
ـ هل أنت المدينة التي كانت في الثمانينات تغفو و تفيق على حنجرة مارسيل خليفة يغني درويش:
/ إنني أرتشف القبلة من حد السكاكين!/؟!

 

 

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.