هاله

من النافذة الخلفية
تكتبها نجاة عبد الصمد
خاص لدحنون

تسقسق استذكارات “هاله” في استراحة المحارب بين طلقتين.
ما الذي أتى بي من حيّ صلاح الدين إلى هنا؟!
هناك في حلب باغتها صوت مؤذن الجامع في غير مواعيد الصلوات: هُجّوا أيها المؤمنون؛ فسماؤنا تبرق، و رعدها  يثمر قنابل تهطل راقصةً من بطن طائر الحديد…
هاله تدور حول نفسها سكرانة دوخانة . تجيل عينيها على جدران البيت ذاهلة  البصيرة. تنستر بعباءتها العتيقة. تنتزع بيمناها “رؤى “ـ كبرى بناتها من الحمام ، تتركها تكمل انسياب بولها في ثيابها. بيسراها تخطف الوسطى “شذى “النعسانة. و بأسنانها تنتشل “رُها” ـ صغيرتها الرضيعة من سلّتها المزركشة الهزّازة،. تدسّ رجليها في شحاطة البيت. تدفش أمامها بطنها المنتفخة ، و تركض صوب الباب ساهية عن انزياح غطاء رأسها.
قلبُها مطرقةُ حدّادٍ فتيّ عجول. تنفلت منها نظرة على درابزين الشرفة: جوارب الصغيرات الملونة منشورة على حديده الصدئ ، .بجانبها كيس اللبن يتصفّى منه المصل في طاسة قاربت تطفح، وعقد فليفلة حمراء علّقته أمس بعد أن ضفرته بخيط:
( لمن برجع المسا  ببقى بدخلن عالمطبخ!) .
تهبط درجات شقتها اثنتين اثنتين. تتدعثر بحافة البوابة، و تنهض برشاقة لم يألفها لا وزنها الرحراح؛ و لا حملها الثقيل.
تخشى فقط أن تموت إحدى البنات ، أو يداهمها الطلق بعناد يُخرج رأس جنينها قبل أوانه على الطريق كاشفاً عورتها.
تندسّ بين جمع جيرانها الراكضين. يتدافعون صوب الوجهة الوحيدة التي لا يطلّ منها حريق.
(بركت) هاله على ظهر الشاحنة (إيسوزو) الشاكية فرطَ حمولتها. وضعت في حضنها صخلاتها الباكيات لتوسع المكان لمن حولها، و بدأت ـ هي الأخرى تلطم وجهها: كيف ذهلت عن صرّة الذهب؟!
( أمس جهزتها تحت المخدّة لأشكلها بصدري إذا فزعنا و هجّينا، عجب كيف غفلت عنها؟!).
لا تعرف هاله أنّ الفقراء في الحروب يذهلون عن تحويشاتهم الضئيلة، فيما لا يذهل الأغنياء عن تحويشاتهم؛ و إن كثُرتْ!
أنزلتهم الشاحنة عطشانين جوعانين خائفين في القابون في دمشق.
خمسة عشر يوما و هي تصفّف بناتها كأصابع اليالنجي على فرشة صغيرة واحدة و تتكوّم مستلقية عند أرجلهنّ البردانة تدفئها بزفيرها المكتوم. لم تكن تملك هاتفا محمولا. كانت قد يئست من وصول أي خبر ـ و لو حزين ـ عن جميع من تحبهم في عالمها الوحيد المسمّى حيّ صلاح الدين قبل أن يعثر عليها زوجها الذي أتقن في رحلة بحثه عنها جميع فنون قصّاصي الأثر!
بكت و هي تتعرّف على عينيه المطفأتين في وجهه الذاوي خلف لحيةٍ مهمَلة.
وصل مصطحبا معه والدتها، وكومة أخبارمفرحة:
*في جيبه 200 ليرة سورية، بينما جيبها فارغ منذ اسبوعين  يؤويها و يطعمها خلالهما فاعلو الخير.
*شقتهم ما زالت صامدة حتى خروجه.  يراوغها القصف و تهرب منه. و كذلك شقة والدته و أخيه المشلول.
أمّه لم تنزح. ظلّت تنتظر رحمة الله في بيتها و ترعى مشلولها الذي يستعصي عليها إخراجه، و يستعصي على قلبها تركُه وحيدا.
*لحظة بدء القصف كان في المشغل. هبّ عن كرسيّه قبل أن يكمل الدرزة الأخيرة في مريول “رؤى” الأزرق( كانت رؤى تساله عن المريول كل يوم. فالمريول وثيقة تسجيلها في روضة عصافير الجنة). تركه مشلوحا يتيما هناك على ماكينة الخياطة التي يعمل أجيرا على إبرتها في معمل الألبسة. طار قاصدا البيت. أعماه الدخان. واصل الركض. لاقاه ابن عمه و جرّه خارج الحيّ( مجنونٌ أنت ؟! عيالك هجّوا، عجّل الحقني) .
كاد يلحق بابن عمه هذا عندما مرّت شقفة قزاز مسنونة لائذة من شباك الشقة المتداعية قبالتهما. صافحت القزازة ذراعه بجرح سطحيّ قبل أن تعانق رقبة ابن عمه و تسكن فيها . لم يلحق به . لم يفكر بإسعافه أو حتى دفنه. و لم يندم. ظل يركض عاصراً ذراعه متخفّفا من عقله و من ندمه. إلى أن تخفّف من وعيه و غاب.
أفاق لا يعرف متى و لا أين. صار بذراعه المضمّدة في شاحنة ٍعلى طريق. ما زال الموبايل في جيبه و أشلاء ذاكرةٍ في رأسه . و كثيرٌ من الذاهلين مثله من حوله. قادته خيوط البحث إلى الشام ، و إلى العثور على أم هاله في الطريق.
*أختها المحاصرة في أريحا وضعت مولودها في العتمة و شح الماء و انقطاع الاتصالات . زوجها استشهد، و هي و أولادها (بخير).
*لا يعرف عن الباقين أيّ خبر.

التمّ شمل العائلة يوما وحيدا  قبل أن يبدأ القصف في القابون، و ينزحوا هم و أهل القابون المضيفون. لكن: إلى أين؟!
جارهم الطيّان الحلبيّ النازح أركبهم في الباص و سار بهم إلى السويداء ـ إلى المدينة التي قضى من قبل أعواما يطيّن حيطان بيوتها…
هاله ببطنها المبروم و رفقة زوجها و صخلاتها السعيدات  تسعد بالسفر غلى طريق طويل آمن.
هاله. ابنة العشرين عاما. بنت مساكن هنانو في حيّ صلاح الدين. لم تخرج طوال سنوات زواجها الست إلاّ إلى صباحية النسوان في بنايتها. و إلى بيت أهلها في البناية المجاورة كل أسبوع. و إلى سوق ( الهُلّك) كل شهر أو اثنين للتسوق الشهيّ. في أحلامها فقط زارت ( بستان الباشا) سوق الأغنياء، و سوق (المول)بطوابقه العالية و إعلاناته الصاخبة التي ظلّت ابنة خالها الغنية تحرنقها كلما عادت منه بمشترياتها.
في مدينة السويداء تبتسم هاله. يتوهج النمش الأحمر الذي يرقّش بياض وجهها. تتأمل أشجار الكينا و حجارةً سوداء لا تشبه اصفرار الأحجار في بنايات حلب، و صبايا سعيدات على الطريق برؤوسٍ سافرة و ذرعانٍ مكشوفة.
باتت ليالي في مزارالوليّ (البلخي) في “القريّا”، في حرم حجرته التي منحتها بعض أمانٍ قبل أن تمنحها عائلةٌ محسنةٌ شرف الإقامة في غرفة مستقلة ، و تأخذها إلى طبيبة التوليد في المدينة.
في مشوار العيادة عادت حكاية صرّة الذهب، و عادت تبكي مبرومة رأس الحيّة (بعينين من خرز أحمر) هدية زواجها من أمها، و سلسالها الثخين و المصحف المتدلّي منه ـ مهرها من زوجها، و بلاكٌ نحيل: هدية زوجها يوم ولادة رؤى، و كفٌّ رقيق مدقوق عليه: (اللهم صلّ على النبي) بخرزة زرقاء على بنصره شكلته على طاقية البنات الثلاث عند ولادة كلّ منهن. كانت ستفك كربة جيبها بالصرّة الغالية التي صارت من دونها على باب الله وحده!
*لديك بنت ـ تقول الطبيبة .
* أعرف. والخير فيما اختاره الله ـ تقول هاله.  وسأسميها “تسنيم”… معناه: (ماءٌ في الجنة يتنزّل من علو).  تعبنا في اختياراسمها كما حدث عند اختيار اسم رُها (بلدٌ بالجزيرة يُنسَب إليه ورق المصاحف) ـ تتابع هالة كمن يكرّر جملة تعوّد على إلقائها… زوجي فرحان بها. لأول مرّة يفرح بالبنت التي ما زلنا أحياء ببَرَكتها.
تغيب هالة في برزخ التخدير على مشارف العملية القيصرية.
تخديرها موت مؤقت و عذب و رحيم. لا يشبه  ساديّةَ موتٍ مؤبّدٍ عانق ابن عم زوجها بقزازة في عنقه!
تسيل دمعة من عينها الخدرانة، نصف المغمضة يهمّ طبيب التخدير بزيادة الجرعة؛ فالدمعة علامة الألم ـ يقول الطبيب.
وأقول في سرّي: (أو شاهد التذكار!)
وأدنو ـ أنا السارقة الخفيّة ـ أسرق الحكي من لسانها الناشف، من صوتها الواجف، من دمعتها الرطبة وحرقتها الخجلى ، من بطنها الذيّ بيديّ هاتين ـ أداتيّ سطوي ـ سأفتحه!، أستخرج منه ” تسنيم” وليدتها الجميلة، أسلمها  إلى ربّ الحياة ليحميها و يحمي أسرتها!
لن أغلق بطنها بغرزات تجميلية أنيقة قبل أن أسرق منه  تفاصيل هذي الحكاية. ثم أتبّلها ببهار روحي، لأهديكم كلّ ما سرقت!
أعرف أن هالة لن تمر من هنا. هالة لن تكتشف انقضاضي على صندوق حكاياها، و لا عبثي في صرة ذهبها! هالة لا تعرف أفانين القراءة و لا تزايين الكتابة؛ و لن تفتح حسابا على الفيسبوك  لتدخل إلى صفحتي وتقاصصني عندما ترى روحها عريانة هنا على مرأى من هذا الجمع الناطر بفضول، وعليه؛ فأنا هنا آمنة من حساب أو عقاب!

 

 

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.