الصفحة الرئيسية / تجريب / غسالة يدوية

غسالة يدوية

من النافذة الخلفية
لنجاة عبد الصمد
خاص بدحنون

 

في الليلة الأخيرة هطل الرصاص من شباك البيت. كنا من قبل نسمعه من بعيد، أو نتابع رحلاته الظافرة على شاشة التلفاز. لم يخطر ببالنا أننا سنصير اليوم أهدافه المفرفِرة إلى زوايا البيت بعد مناورة الرصاص الأولى، والراكضة على عراء الطريق بعد مناورته الثانية، واللاجئة إلى بيوت الغرباء قبل الوصول إلى الأقربين من الأهل بعد المناورة الأخيرة.  احتفينا ببقائنا أحياء، وغضضنا الطرف عن ضيق مضيفينا بنا…

 ربما كنا واهمين، وربما ضاق بنا فعلاً حتى أهلي و أهل زوجي. لجأنا إلى غرفة مستأجرة. خاطر زوجي بالعودة إلى بيتنا تحت القصف ليأتي بالأثاث، فعاد بحرقة الخيبة . لم يعرف من سرق أثاثنا: أهو الجيش أم (الإرهابيون المسلحون)، أم مَن بقي من الجيران في الحي؟!

ضاقت بنا حتى الغرفة التي نكتريها بإيجار أبهظ  من صبري و صبر زوجي، وأبهظ حتى من قوت أولادي الثلاثة. ظننتها أيضا أبهظ من رعدة الحياة في قلب جنيني الذي لم أستقوِ إلاّ عليه!

لجأتُ إلى طبيبي، فرفض إسقاطه و حذّرني: “و لا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق…”  شتمته و خرجت.

بتلقينٍ من الأم القديمة الطيّبة التي كنتُها رأيتُني أبوس صورة جنيني في خيالي، و أطلب منها بعضاً من الغفران قبل أن أُدخِل سنارة الحياكة في جوفي و أستدرج هذا الجنين كي يخرج ميتا من ظلمة جسدي الرخو قبل أن تصفعه الحياة بكذبة الطفولة الموعودة بالأهل والحنان والألعاب. فشلتُ في قتل جنيني، وكسبَ عني رهانَ الحياة.

كان هذا منذ شهور، و صرتُ الآن على مشارف ولادته. سيأتي إلى أهلٍ بلا بيت و بلا مالٍ وبلا إيمان و بلا وعود ولو واهية بأن يضمَّهم أيُّ حضن. أكره حظي، أكره نفسي، و قريبا سأكره أولادي كما أكره هذه الغرفة المستأجرة في قريةٍ  في السويداء كانت ذات يومٍ مسقط رأس زوجي، وصارت الآن مسقط أجسادنا الساخطة. كنا في حي التضامن في ريف دمشق. زوجي سعيد بوظيفة مستخدم في فندق فاخر. لم يكن يعبأ براتبه القليل حين كان البخشيش يبلّ ريقنا، لكنه اليوم يحرص على راتبه العزيز الذي بالكاد يقايض به خبزنا الحاف و أجر الغرفة.  بدأ يضيق بإشهار هويته و رعبه على كل حاجز، وبمجاهل الحواجز الطيارة بين الحواجز النظامية، ويضيق بثمن التذكرة من السويداء إلى دمشق. صار يواصل مناوباته ثلاثة أيام بلياليها يوفّر خلالها كل ما كان يصرف، و يسرف خلالها في إرعابي من وحشة الناس و من وحشة الوحدة ومن دلال الرغبات.

أخطأَنا رصاصُ الموت، فأسلمَنا لأزيز الرعب. لماذا سيهمّني من ماتوا أو من سينتصرون؟!؛ فأنا؛ و إن لم أمت؛ مات السماح في قلبي.  قلعتُ ثلاثة من أسناني المنخورة في المستوصف. و من يومها وأنا أستحي ان أبتسم. أداري اللعثمة على شفاهي المزمومة غصبا عني. عبثا داويتُ ذبول وجهي بحفنة لبن رائب دلقتُها في كيس من النايلون سرقته من بيت أهلي. تهرّأت يداي من غسل الثياب، و تهرّا قلبي من النحيب، و من تهافت أطفالي على ربطة الخبز المذعورة من أفواههم وهي تتسابق على زلطها من غير مضغ.

لم أعد أريد من دنياي، ومن أعوامي السبعة و العشرين، و من ربي، ومن جنيني القادم؛ سوى أن يسامحوني!

لا أعرف ماذا أريد! لا أحلم إلاّ بولادةٍ لا أموت إثرها…بلى؛ أنا أحلم أيضا بعودة أسناني إلى حلقي، وأحلم بغسالة ثياب. لتكن عتيقة أو مقشرّة الدهان، أو مكسوة بالصدأ،  يدوية أو نصف آلية. قد أحلم أيضا بغسالة أوتوماتيك…

25/11/2012

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.