الصفحة الرئيسية / تجريب / من حيث لا نعلم…

من حيث لا نعلم…

من النافذة الخلفية
تكتبها نجاة عبد الصمد
خاص بدحنون
 

 

1ـ ربيع

لم يكن يوم سعدي؛ حتى وإن استغنى العميد عن خدماتنا باكرا هذا اليوم. سنستمتع أنا وزميلي الإدلبيّ بسندويشتي فلافل، ننطلق بعدها بحبور الشبعانين إلى القابون لإصلاح قطعة تالفة في السيارة. تسمّرت عيون الشباب في ورشة الصيانة على ماركة سيارتنا (نيسان ـ سوني) وزجاجها المفيّم الواشي بسيارات المسؤولين. طلبوا لنا الشاي عبر الموبايل. وصل شايهم الساخن في سيارة أجرة هبط منها خمسة مسلحين بوجوهٍ مقنّعة تركض صوبنا ـ نحن صيدها الثمين.

هي لحظة أيقظت الرعب المعشّش في رأسي منذ بدأت محنة سورية. كنتُ أطرده فلا يغادر. كنت أحاوره فلا يسمع. كنتُ أخترع حلولاً شجاعة فيخذلني جُبني، وأعزي نفسي أن سيشفع لي نقاء سريرتي… تُحيلني الحيرة أخيرا إلى التسليم بقضاء الله.

أراهم الآن فأدرك أنّ ساعتي حانت… هي لحظةٌ أذكى من خيالي حملَتْ يدي إلى مسدسي وصوّبته صوب رأسي لختام المهزلة، لكنّ خبطة أحدهم على هذا الرأس سبقت إصبعي الراجف على الزناد الذي أُقسم برأس ابني وابنتي أنني لم أختبره يوما!…

أفقتُ حين غطسّوني في خزان ماء. سحبوني منه وجرّوني على التراب. شعرةٌ علقت في فمي وطعمُ روث. تقيأت وتابعت زحفي المنساب منزلقاً على قيئي. صرتُ أكثر صحوا. أطربني ثغاء الخراف وعواء الكلاب الذي صاريخالط الدويّ الخدران في رأسي. انقحط كوعي. علق شعري بكلاّبة من أصابع سوداء. تناوشني الألم فهتفتُ لربٍّ بعيدٍ مشدوهٍ عاجز. أيقظني صوتُ رصاصٍ تمنيته في صدري. هذا الرصاص أبخل من هديةٍ مرجوّة. تفتيحة عينيّ لم تحظ بغير تفتيحة رجلٍ ميتٍ عارٍ أزرق اللحم رموني قبالته. أنا ربيع الشبّ المهيوب الجبان عن أذى أرتال النمل أمام بيت أهلي. كنت أُغضِب أمي وأرفض رشّ السمّ على فوهة عشها. أنا ربيع سائق سيارة زوجة العميد. أنا ربيع خريج المعهد المتوسط الذي بعد تخرجه، وبعد تأديته لخدمة العلم لم يمنحه الخليج العربيّ كله تأشيرة عمل، ولم تمنحه الدوائر المدنيّة حتى وظيفة فرّاشٍ، ولم يملك رأسمال ليفتتح به ورشة نجارةٍ ولو في منزله، ولم يرحّب بكفاءاته سوى العميد في أمن الدولة. توسّطت لي عنده زوجته ـ ابنة ضيعتنا التي لم تنسَ خبز أمي المنذور من التنور إلى بيتنا وبيوت الجيران، كل الجيران…. أنا ربيع الذي لم يترك في البيت خارجية الأولاد، أبول الآن في ثيابي المشلّخة  إثر سحلي من الخزان إلى القاووش الطافح بعشرات الأنفاسٍ التي مثلي: تناجي الموت، ويدير الموت لها ظهره.

إيقاظة الصباح التالي كانت بإطلاق رصاصة على الباب. لم يفزع الشباب كما فزعت، لأنهم ألفوها. بالقرب مني زميلي الإدلبي يستعدّ للخروج طليقا بشفاعة طائفته السنيّة؛ وباتفاق أن يعود إلى الفرع عواينيّا لهم، وأن لا يعرف الفرع أنّه كان في ضيافة الجيش الحرّ، وألاّ يخبرهم عن اختطافي. أما أنا فسأبقى في ضيافتهم بإدانة طائفتي الدرزية. سينجيني من القتل أمرٌ واحد: (أن أكفّر عن ماضيّ النجس بإعلان انشقاقي، ثم التحاقي بالصف الأول من مقاتليهم على الجبهة ضد جيش النظام). لم يعجبه صمتي. ودّعني وخرج. بعدها لم يعد يكلمني أحد. عيونهم المحدقة بي من خلف أقنعتها تشتمني بحقد لا أفهم له سببا. يقتربون مني شامتين بانكساري يمدّون أياديهم السوداء يضعون حديدة تحت رجلي، وحديدة فوقها ويربطون الحديدتين بحبلٍ خشنٍ ويشدونها، فأروحُ طيّ إغماءةٍ تصحّيني منها دفقاتُ الماء على حوضي، واستغاثةُ الوجع من رجلي المهروسة بالحديد.

لم يضربوني أبدا بعد أن اطمأنّوا إلى عطب رجلي. ركنوني إلى حنان زاويةٍ قصيّةٍ أتكئ على الجدار أرقب الطقس الذي دمغ ضيافتهم بالغة الكرم: وجبات تعذيب القادمين الجدد، ومهمة تعزيل من اختاره الله إلى جواره من شدة الضرب بجرّه إلى الحفرة القريبة من الحوش، ورميه فيها فوق من رُمِي قبله، وفق تقسيمٍ للمهمات لا يخطئ ولو قليلا: المسيحيُّ يرمي المسيحيّ، والعلويُّ يرمي العلويّ، والدرزيُّ يرمي الدرزيّ…

لم يمت أحدنا بطلقة رحمةٍ تنهي حياته بشرف: ظلّوا يضربون أحد الرجال حتى صار رأسه كبرميلٍ صغير، واندلقت عينه من وجهه كتفاحة كبيرة وعندما انطفأ تماما جرّه ابن ضيعته إلى الحفرة بعد أن انتثر دمه ولحمه على وجوهنا وصدورنا العارية… لا أعرف لماذا لم يبقوا علينا من لباسنا سوى السراويل، ومنعوا عنا الاستحمام والاستجمام في الحوش، ومنعونا من إغماض عيوننا أو إشاحة وجوهنا عن طقسهم اليومي… قطعوا عضو أحد المسجونين وصاروا يطيّرونه في الهواء بين اياديهم كالكرة الطائرة فيما يضربه أحدهم على رأسه حتى يسلم الروح ثم يضع عضوه في فمه ، يتركونه نائما بيننا حتى الصباح التالي ليكلفوا أقرب رفاقه إليه بجرّه إلى الحفرة.

وجبتنا اليومية الوحيدة كسرة خبز. لا أعرف كم مضى عليّ من الأيام قبل أن أعطوني هاتفي النقال الذي صار ملكا لهم لأكلّم عبره أميّ! عرفوا من يختارون! قل لها أنك بخير؛ بألف خير… وأنك عزيز بيننا.

لم أعد أريد الموت. ندمتُ لأنني تمنّيتُ الموت قبل اليوم. صرت أريد أن اعيش كي لا تبكي أمي…

صرتُ لا أكره الشرب من الحوض الذي تشرب منه أغنام المزرعة، أتفرج عليها تطفئ عطشها وتزفر بالشكر لمهندس الكون، وأتقدم لأشرب بعد أن تبتعد. أرقب نحول خصري، وأشكر الله لأن قدمي المعطوبة صارت تستطيع حملي إلى المرحاض (مرحاضنا الأرض الخلاء)، فلا أكلّف رفاقي في التعذيب بإحضار الزحّافة كلما لم تعد مثانتي تحتمل.

كان الخاروف الماشي بأمان أمام الحوش هدفا لرصاص أحدهم هذا الصباح! شووه على النار وأكلوا لحمه الطريّ أمامنا. هنا أيضا نحن متفرجون تماما كفرجتنا على وجبات التعذيب. همس جاري في غفلةٍ عنهم: لماذا لم يذبحوه على الطريقة الإسلامية ؟! كانوا كل يوم يبشروننا أن حكم المفتي على فلان منا سيصدر اليوم. لن يظلم المفتي أحدا. سيحاكمنا وفق الشريعة السمحة: القاتل يُقتل، وجميعنا قتَلة. وقد يغنمون فدية من أهلنا لن يعدموا إليها سبيلا. تلك مهمة وسطائهم في الخارج.

كنا عشرات الرجال… أعدادنا شبه ثابتة بين جدد أحياء يأتون بهم، وقديمين ماتوا اليوم علينا نحن أن نرحّلهم إلى الحفرة.

اجتزتُ الامتحان الأصعب حين استطعت وحيدا، وبقدمي المعطوبة جرّ الدرزيّ الخائن الميت  إلى الحفرة.

 المقنّع الوحيد الذي نزع قناعه أمامي بعد إسبوعين بدا فتى في العشرين، طيب الملامح. أخبرني أنه يكلّم أهلي عبر موبايلي كل يوم. أهلك طيبون: قال لي. أهلي ماتوا ـ قال لي. أخبرني أنه كان طالبا في كلية الطب البشري في سنته الثالثة. خرج في مظاهرة سلميةٍ اعتقله الأمن إثرها، ووجد نفسه مفصولا من الجامعة بعد إطلاق سبيله. طار للاطمئنان على أهله الذين قال قلبه له قبل أن يسمع الخبر: ماتوا تحت القصف. قال : ماحلّ بي لم يكن الحزن ولا التذكار ولا اليأس. صرتُ لا أرغب إلا في الانتقام… فالتحقت بالجيش الحر.

لم يكلمني أحد سواه، ولم أكلم أحدا أبدا… استغربت وفرحت وخفت حين صاروا في الأيام الأخيرة يتركونني أحكي مع أمي وزوجتي وابنتي كل يوم، ويصبرون على تأتأة ابنتي ذات الأعوام الثلاثة وهي تحاول أن تغني على الهاتف. ويطلبون أن أعلن أنني بألف خير قبل أن ينتزعوا الهاتف مني ويتركوني في الزاوية القصيّة ذاتها أبكي كبنت يتيمة.

ربما مضى شهر. لا أعرف بالضبط. نقلوني خلاله معصوب العينين واليدين إلى ثلاثة أماكن على أطراف الشام. أمّا اليوم؛ فقد أيقظوني باكرا. ألبسوني بنطالي. تذكّرتُ لعبة في طفولتي مع إخوتي: نلبس بناطيل أبي الكبيرة في غيابه ونربط خصورها على أعناقنا… ونركض ونقع ونضحك… طويلا نضحك… رموني في صندوق الشاحنة، وقالوا: تشهّد على روحك! فهذه رحلتك الأخيرة. لم يعد بي حيلٌ لأسألهم: ولكن: إلى أين؟!…

2ـ حسان

لم يعد ربيع اليوم إلى البيت. ربيع لم يتأخر يوما. جواله خارج التغطية.

لم تردّ القيادةعلى اتصالنا. أجابتنا زوجة العميد: لم نعثر له على اسم على حاجز أو في مستشفى. إدعوا لربيع بالسلامة…. طلبٌ صادقٌ، وبريء، وساذجٌ، وملغوم…. في اليوم التالي اتصل العميد ليخبرنا أنه سيحاول ما يستطيع، وعلينا أيضا أن نحاول ما نستطيع، بعدها لم يتصل، ولم يعد يردّ على اتصالاتنا طوال شهر.

من أين أبدأ بحثي عن أخي؟! سألتُ نفسي أنا وإخوتي. فنحن من جماعة:” الحالة مستورة والحمد لله”، لا نملك ما نخاف عليه، ولاتخشى نوايانا بطش أحد لأنها لم تنصب شباكها للإيقاع بأحد. سعيدون هكذا: لا فوق، ولا تحت… مصيبة الآدميّ أنه آدميّ، أنه يغرق في شبرٍ من ماء المكائد.

بعد وضوح جواب القيادة (دبروا حالكم…) هداني تفكيري إلى دربين سأسلكهما كليهما: الأول إلى عائلة مسلمة سنية من سكان ضيعتنا الأصليين تستضيف نازحين لا بدّ أنّ لأحدٍ منهم علاقةً بالجيش الحر. وثانيهما سأبحث عن عائلة وقع الخطف على ابن لها وافتدته بالمال فنجا. والله وحده المعين.

في الأيام الأولى فقط كان تفكيري صافيا وموجَّها. كل ما تلا ذلك كان سباحةً مع التيار من دون أدنى مقاومة، ومن دون تفكير، أو اجتهادات سخيفة. كان استسلاماً متخفّفا من أمل ومن يأس ومن رجاء… سريتُ أليه بيدين ممدودتين في كل اتجاه، أو بسقوط حرٍّ يشهد أنّ فداحة الحِمل سيدّة السقوط نحو الهاوية.

لماذا وقع الخيار عليّ من بين إخوتي ما دمتُ لستُ كبيرهم؟! لا أعرف. ربما هو السقوط الحرّ لحظّي، والتحليق المرح لضميري الذي أخذني صوب الله أشتري هدايته بكل مشاويري المكوكية الخائبة في معظمها على مدار شهر من الزمان.  تبعثرت أموالي وأموال إخوتي هباء في جيوب أبناء الحلال والحرام؛ كنت أحاول بهذا كله أن أشتري راحةً لنفسي، وأملا لأمي، وإن كان اليأس دوما ظلّي الوفي، والأمل ظلّي الآخر المراوغ!

كلتا الاستشارتين أكّدتا أنّ عليّ ان أطرق جميع الأبواب المفتوحة والمواربة والمغلقة، والصديقة والعدوّة واللاعبة على الحبلين… وأن أبذل ما استطعت من مال ومن وقت، وأن أعيد تذكير كلّ من سالتهم كل عدّة ايام لأنهم عادةً ينسون، وأن أجعل وجهي من عظم أمام جلافتهم، وأن أبالغ في سماكة دمي وثخانة جلدي أمام لا مبالاتهم، وأن أصير عبدا لغايتي، وأن تبرّر غايتي هذه جميع وسائلي…

هل هذا العالم الذي ألجُه حافيا، جاثيا، ضارعا، رامياً كلّ أسهمي باحترافٍ أنا أسأل نفسي من أين اكتسبته؛ هل يشبه في شيء عالمنا القديم الساذج الخالي من دهشة الحال الذي أنا فيه الآن؟! هو السؤال الكبير الذي لن يجيب عليه أحدٌ إلاّ مثلنا الشعبيّ: (الله لا يوقعنا بالتجاريب)…

أهل المخطوف العائد حياً أرشدوني، والعائلة السنيّة أرسلت جميع مراسيلها إلى السويداء ودرعا ودمشق وريفها. وبدوري ذهبتُ إلى مشايخ العقل الثلاثة، ورجال الأمن الذين يعرفهم أصحابي، ورجال الأمن المتقاعدين النافذين، ووجهاء المدينة وريفها، لم ألجا إلى اصحاب أخي. لم تكن لأخي صداقاتٌ أو علاقات. كان يوصل العميد أو زوجته من وإلى البيت، ولا يصادق سوى موعد راتبه الكافي آخر كل شهر.

تباينت آراء الذين سألتهم وتحليلاتهم، ومدى تعاطفهم، وصدق رغبتهم في مساعدتي. أفهموني جميعهم أن: الكلمة والوعد والاتصال والتقدم خطوة إلى الأمام يرافقه المال… الكثير من المال، وعليّ ألاّ أبخل!

– شيخ العقل الأول “ظلُّ الحكومة الوفيّ” قال أن الحكومة حتما ستعيد أخي إلينا.

– شيخ العقل الثاني عاقل متفهم، لكن: بلا حول أو قوّة. قال: بيفرجها الله منشوف. الله يقدّم اللي فيه الصالح…

– شيخ العقل الثالث استنتج من حكايتي أنّ عليه أن يستمرّ في استلام السلاح من الحكومة ليقوى ابناء مدينتنا أكثر وأكثر، ولا يجرؤ الإرهابيون على اختطاف المزيد منهم حين سنصير مسلحين مثلهم.

 لن أنسى أنّ المشايخ الثلاثة أبدوا حرصهم الشديد على إخبارهم بما يستجدّ في قضيتي.

– وجيهُ المقرن الغربي وعدني أنه إذا ثبت أنّ أخي في قبضة الجيش الحر فلأعتبر أنه صار في البيت منذ الغد. فهذا الجيش مبدئيًّ وعادل.

– لا أعرف من أوصل خبرا إلى مكتب وليد جنبلاط في بيروت الذي جاءني منه اتصال أنهم من هناك يضعون ثقلهم كاملا في قضية أخي.

– رجل الأمن المتقاعد اشترط أمرا واحدا: ألآ يعرف بتدخّله أحد. قال لي بالحرف: (صحيح أنني تقاعدت، لكنّ هويتي الأمنية وسلاحي ما زالا معي، وأنا وقيادتي نتعامل معا على مبدأ عدم الثقة المتبادلة. يعرفون أنني أشتغل لحسابي باسمهم، ويصمتون لأنهم لم يستغنوا بعد عن خبرتي وعلاقاتي، ولن يتورعوا عن تصفيتي حين ستتضارب مصالحنا) كان معروفا بسوء سمعته وفراغ ذمتّه، لكنه الوحيد الذي أمطرت رعوده: أرسل لتاجرٍ المواشي الشاميّ الذي يتعامل مع الجيش الحر. التاجر أفهم رجل الأمن أنّ الجيش الحرّ ليس كيانا واحدا. جماعاته المسلحة تعمل مستقلة عن بعضها، ولا تنسق فيما بينها إلا في حال الضرورة، وبعض فصائلهم دمويّة  ولا تستمع إلى أحد، ومع ذلك سيحاول. اتصل بأصحاب محلات قطع تبديل السيارات في القابون يسألهم عن (قريبه) الموظف في أمن الدولة الذي أتى إليهم بسيارة نيسان. لونها كذا في يوم كذا… هذا يقول سمعنا وهذا يقول ربما… خمسة أيام وعرفوا مكانه… من جميع مَن قصدنا لم يصمد معنا حتى النهاية سوى التاجر ورجل الأمن المتقاعد بغض النظر عن المال الكثير الذي طلباه.

خلال هذه الأيام الخمسة كنت قد دفعتُ 100 ألف ليرة سورية ثمنا لبداية الجولات. أنا الآن أسال نفسي: كيف أمّنتها ولم يكن معنا أنا وزوجتي الموظفة سوى 7000 ليرة كنا حيّدناها ثمنا لبرميل مازوت؟!

تركنا نحن الأخوة بيوتنا وصرنا ننام عند أهلي في البيت الكبير. أول اتصالٍ وصلنا منهم كان بعد منتصف ليل اليوم الثالث على موبايل زوجة ربيع. كنا اتفقنا ألاّ يرد أحد إلاّي على أي رقم غريب لأنني سأكون محتاطا لأي رد:

ـ ألو.. ربيع ابنكم؟.. كيف تريدون أن نبعثه إليكم؟ نرميه على الطريق، أم نرسله في موكب مع جثث أخرى لشبيحة آخرين؟!، أم نبعث منه رجلا أم يدا للذكرى؟!… سنقتله حتما لأنه قاتل. ثبت أنه قتل اثنين من الثوار… كلكم شبيحة.. هي رسالة لكم جميعا: اليوم نأخذ العساكر ورجال الأمن… وغدا سنبدأ بخطف الموظفين المدنيين.. وأقفل الخط قبل أن أستطيع النطق…

بعد منتصف الليلة التالية اتصال جديد. طلبوا أولا تحويل 1000 وحدة موبايل. كل ليلة كانوا يطلبون 1000، 2000 وحدة. اتفقنا مع الدكان القريب من البيت أن يكون جاهزا لإيقاظه في أية ساعة من الليل لتأمين وحدات، إضافة إلى ما خزنّاه في موبايلاتنا. أسمعوا أمي صوت ربيع على الهاتف يقول أنه في أحسن ضيافة. عرفنا على الأقل أنه ما زال حيا. في الأيام التالية أخبرونا أن أخي كان مع المجموعة التي هاجمت المساجد في ريف دمشق حيث كانت تخرج المظاهرات. وأنّ أخي قاتِل. أعطاني الرجل فرصةً لأخبره أنّ البيت الذي تربّى فيه أخي لا يربّي قتلَة. لم يجادلني. اتصالات يومية وتحويل وحدات وتهديد بقتل ربيع إلى أن مضى أسبوعان. تغيّرت لهجتهم، قالوا أن براءة أخي الشخصية ثبتت، ولم تثبت براءة مجموعته، وأنّ أحد قياديي الجيش الحر المرموقين في درعا توسّط لأخي عن طريق التاجر الشامي الذي تعهد أمامهم بأننا سندفع فدية مقابل أن يخرج حيّا. سألته كم تطلبون؟ قال: أنتم اجمعوا ما استطعتم إلى أن نخبركم. لم يتصلوا في الايام الثلاثة التالية. بدأنا نجمع كلّ ما لدينا بما فيه أساور زوجاتنا… بلغ ما جمعناه 850 ألف ليره.

درتُ على جميع معارفي. واحد أدانني 100 ألف ليرة. واحدٌ 50 الف. واحد 25 ألف. كثرٌ قالوا معنا، لكن لن نعطيك. لا نستطيع توقيف تجاراتنا في هذه الفرصة المؤاتية للتجارات الرابحة. بعضهم رفض الاستماع إليّ. لا يريد وجع الرأس. المشايخ لم يضيفوا على دعائهم لربيع بالسلامة شيئا. وجيه المقرن استنكر ردود أفعال الفصائل التي يعرفها من الجيش الحر. أقرّ معرفته بأنّ بعض فصائلهم صارت دمويّة. مكتب وليد جنبلاط ما زال يسعى، وما زال العميد لا يرد على اتصالاتنا… لم أعد أسمع بوضوح، لم أعد أفهم ما أسمع. كفرتُ بديني وبوطني، وبالحكومة وبالثورة، وبالأخلاق والكرامة والسيرة الحسنة.

كانوا أخبرونا أنه صار في دوما، وصدف يومها أن الحكومة بدأت قذائفها عليهم هناك، وصار عليهم أن يُخلوا موقعهم، وأن يتخلصّوا قبل ذلك من مساجينهم. هنا اشتدّت لهجتهم: طائفتكم لم تدفع الدم؛ فلتستعدّوا لدفع المال كأقلّ تعويض ممكن عن تخاذلكم! فدية ابنكم أربعة ملايين وربع مليون ليرة سورية! نريدها دولارات، أو تشترون لنا بها 100 حشوة (قذيفة) أر.ب.ج ونحن ندلّكم من أين. قلت لهم: لانملك ولا ربع المبلغ. قالوا: بيعوا بيوتكم. قلت: والله عرضناها للبيع وتجهّزنا لسكن الخيام منذ أخبرتمونا، ولم نجد من يشتري. قال: تلك مشكلتكم. قلت: ابعثوا أنتم من يشتريها، ونحن نبيع بأي سعر، المهم أن يكفي. قال: لا ينقصنا بعد إلاّ هذا. قلت: طوّل بالك. أنهى الاتصال بأن ربيع سيقتل الليلة.

كانت قصتنا قد صارت على كل لسان. سمعنا ميكروفون الضيعة ينادي أهل النخوة للاجتماع في الصالة وجمع التبرعات لآل فلان. تبرّع كلٌّ بما يقدر: 200 ليرة، 300، 500، 1000، 2000 وصل المبلغ إلى 190 ألف ليرة (هذا المبلغ نعتبره دينا لمجلس أوقاف البلدة).

ساومناهم لتخفيف الفدية. عبثا. رهننا كلّ شيء. استدنّا باقي المبلغ بالفائدة المركّبة وعددناه أنا وإخوتي عشرين مرّة وتأكدنا من صحة المبلغ. لكن الصائغ الذي عدّ المال أكّد أنه ناقص 19 ألف ليرة. ربما كان أشطر في العدّ منا. أعطانا دولارات  مخصوما منها ما يساوي 19 ألف ليرة عدنا واستدنّاها وانطلقنا إلى دمشق.

قطعوا حواجز كثيرة قبل أن يلتقواعلى جسر زملكا: أخي ومرافقوه من الشمال، والتاجر ورجل الأمن من الجنوب. قبل لقائهم مرّر طالبُ الطب الطيب أخي إلى الحلاق ليستحمّ و يحلق ذقنه قبل أن يسلّمهم إياه مستندا إلى عكاز، محاولا أن يبتسم، ناقصا 16 كغ، واستلموا دولاراتهم غير منقوصة. حين رأينا أخي كنا على استعداد لتقبيل قدمي رجل الأمن المتقاعد ذي السمعة الوسخة. يكفيه شرفا أنه أعاد ربيع إلينا.

بعد يومين حضر العميد بعينين دامعتين يهنئ أخي بالسلامة، وأرسل  إليه دورية تعيده إلى عمله في اليوم الثالث.

حينها لم يكن أخي بعدّ قد نطق بحرفٍ عمّا حلّ به، ولم يكن أحدٌ سأله. فقط تدخلنا كي لا يذهب برفقة الدورية. لكنه ذهب؛ لا ليعود إلى عمله، لكن ليقدّم ضبطا رسميا بسرقة سيارته وسلاحه كي لا يجرّموه بتهمة “خيانة ائتمان العُهدة”، وليطلب إجازة صحية مفتوحة.

لا يريد أن يستقيل، ولا يريد أن يعود إلى عمله، ولا يريد أن ينشقّ. لا يريد شيئا سوى أن ينام وينسى…

أخبره زميله أنّ القيادة قد تجرّم أهله بتهمة تأمين المال للإرهابيين. كان على أهله أن يتركوه بين أيديهم حتى وإن قتلوه، فالشهداء من قبله كثر ولا زالت المؤامرة مستمرة، ولا زالوا مستعدين لتقديم الشهداء فدى للوطن…

أخي صار يعرف أننا وإياه برواتبنا جميعها مرهونين لخمسة وعشرين عاما قادمة عساها تكفينا لسداد ديوننا.

أمامه فقط مهمة مستعجلة: أن يخبر أهل الدرزي المخطوف الذي تعرّف إليه هناك أن يكفوا عن جمع فديته، لأنه بيديه هاتين رماه هناك في الحفرة.

12/10/2012

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.