وأخيراً بكيت

 نور مرشد

لأنه نشأ في أسرة لم تتقن يوما فن التعبير عن المشاعر, ولأن المرات التي شاهد والده يقبل والدته فيها طوال حياته أقل من عدد أصابع يد واحدة, وحتى تلك القبل لم ترق بأفضل أحوالها لأكثر من مراسيم استقبال رسمي لزائر, ولأن تقبيل والديه له اقتصر على الأعياد فقط, وكان يحسد أصدقاءه على ما يسمعونه من كلمات حنان من أمهاتهم يقف أمامها صامتا ساهما وفي عينيه نظرة غيرة لم يفهمها أحد.  فقد مقدرته على البكاء.

وفي الطريق إلى مصيره المجهول في سيارة امتلأت برجال الأمن, الذين حشروه بينهم وهم مدججين بأسلحة لم يفهم حاجتهم إليها وليس في عيونهم سوى نظرات من الكراهية والتهديد وانتصار مهين, تذكر أمه. وفي أعماقه تمنى لو تراه في تلك اللحظة ليستمع إلى ما ستقوله, علها تروي ظمأه لحنان لم يدركه يوما. وكان مازال فاقدا القدرة على البكاء.

يعود اليوم بذاكرته إلى يوم وفاة والده, وكانت تلك أول مرة يفقد فيها شخصا مقربا منه إلى هذه الدرجة. لم يكن صغيرا حينها, لقد تجاوز الثلاثين من عمره. الجميع من حوله يبكي ويصيح. أحاطت النساء بجثة والده الممدة في وسط المكان وشرعوا بمراسم الحزن والعويل والنواح. وقف عند الباب المفتوح لذلك المكان ينظر من بعيد ويردد بصوت أجش بعد أن تسمرت عيناه وانتفخت حنجرته ونفرت عروقه ” بابا .. بابا, بابا” حتى أصبحت الكلمة بلا معنى وبلا روح وبلا إحساس. انتبهت إليه إحدى النسوة وصاحت: “أدخلوه  إلى هنا واجعلوه يبكي, سينفجر إن بقي على هذا الحال, حرام .. حرام”. اقتادوه إلى الداخل حتى بات فوق جثة والده, وراحت النسوة تتفنن باستحضار الحزن وتهويله أمامه ليبكي. لكنه بقي عاجزا عن البكاء.

في إحدى الليالي الباردة من شتاءات سوريا وبعد يوم لم يختلف بشيء عن الأيام والشهور والسنين التي سبقته وبين الجدران المرتفعة للسجن الذي كان يمكث فيه بعد اعتقاله بسنوات, رأى أمه بثيابها التي كانت ترتديها في آخر مرة رآها قبل أن ينسى صخب الحياة. كانت تمد ذراعيها نحوه وفي عينها دموع, فرح لرؤية دموعها التي تذرفها شوقا لاحتضانه, تردد بداية, ثم تيقن أن ما يراه صحيحا, قفزت روحه شوقا لحضنها .. جرى نحوها, راح يركض أسرع وأسرع ويستغرب!! “لماذا كلما اقتربت منها تبتعد؟”. لقد قطع تلك المسافة عشرات المرات وظل متسمرا في مكانه ينظر إليها وهي تقفز بعيدا عنه وكأن قوة خفية تشدها كي لا يصل إليها. لهاثه بات مسموعا لكل من حوله والعرق يتصبب من كل زاوية في جسده المنهك, وعندما خارت قواه, تذكر أنه يستطيع الطيران, لطالما حلق في فضاءات أمكنة لم يراها من قبل. كان الطيران سبيله الوحيد للنجاة من كل مأزق يتعرض له منذ طفولته. طار إليها .. بدون أجنحة طار .. جسده يرتعش بتوتر, فيداه لا تصلان إليها أبدا, كلما حط في مكان وقوفها كانت تطير هي الأخرى بعيدا عنه بنفس المسافة. وما زالت ذراعاها ممدودتان نحوه, أخذ شهيقه يعلو ونبضات قلبه تكاد تصل إلى أقصى الأرض, ارتفع مجددا في محاولة للوصول إليها مرة أخرى, فهو ليس مستعدا بعد لأن يرضخ لليأس. غابت خلف جدران سجنه .. “لا بأس مادمت أستطيع الطيران, سأصل إلى حضنها”, قال لنفسه وارتفع أكثر, لكن جدران السجن كانت تعلو أمامه كلما ارتفع أكثر, فهناك من اتخذ قرارا بأن لا يرى خلف تلك الجدران. انتفض القهر في شرايينه وقبل أن يوقن أنها غابت مرة أخرى كان قد فقدها من جديد. حالت جدران السجن ورغبات سجان حاقد بينهما, عندها, وبمرارة احتبست في أنفاسه منذ سنوات أجهش ببكاء جنوني, راح ينتحب بصوت عال أراد لأمه أن تسمعه,  بكى بألم وحرقة .. بكى حتى تعب من البكاء وذرف دموعا عزت بها عيناه طوال حياته .. شعر أنه يختنق .. وقبل أن يتوقف قلبه ببرهة انتفض مذعورا على يد تربت على جبينه, ليشاهد حوله كل من معه في المهجع وفي عيونهم قلق غريب أفزعه, جلس في سريره عاجزا أن يتوقف عن البكاء. وأيدي رفاقه تربت عليه بحنان ليهدأ, لم يتناول المنديل الذي مده إليه أحد رفاقه. لا يريد أن يمسح دموعا اشتاق إليها طوال عمره. ثم وصله صوت الطبيب الذي كان سريره مقابله يقول: “مجرد كابوس, فقط ناولوه القليل من الماء.” شرب القليل من الماء ونظر في وجوههم جميعا وابتسم, ثم قلب مخدته لأن سيل دموعه كان قد بللها بالكامل, ودون أن ينطق بكلمة عاد يحاول النوم بين شوق مؤلم لحضن أمه وفرح عارم بأنه استعاد مقدرته على البكاء.

منشورة مسبقاً تحت عنوان “أشتاق دموعي” على
جريدة طلعنا عالحرية – العدد 22- 30/1/2013

الصورة: فرانز ميزرشميت

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.