الصفحة الرئيسية / زوايا / طفولة بالأبيض والأسود

طفولة بالأبيض والأسود

عشتار السورية
خاص بدحنون
 
 

لبست مريولها غير الملون، تأكدت من وجود كل دفاترها غير الملونة ومضت إلى المدرسة التي لم تحب يوماً.
بعد الاصطفاف في الباحة وتنفيذ الإيعازات وترديد الشعارات* بشكل آلي، والتي ستكررها صباح كل يوم لاثني عشر عاماً مع بعض التعديلات في السنوات المقبلة، دخلت إلى الصف غير الملون وجلست على مقعدها غير الملون.
كان اليوم السابع من دوامها كرفيقة طليعية في الصف الثالث الشعبة الثانية يوماً عادياً إلى أن أعلنت المعلمة أو كما اعتادت أن تناديها الرفيقات الطليعيات “الآنسة” أن اليوم هو يوم انتخاب العريفة.

اختارت الآنسة مجموعة من الفتيات اللواتي عرفن بحبهن للقيادة وعدم ممانعتهن للوشاية بزميلاتهن في سبيلها. مع أنها كانت الأولى على الصف في العام السابق، لكن خجلها وطبعها الدمث جداً مع صديقاتها بما فيهن “الكسلانات والمشاغبات” منعا المعلمة من ترشيحها لاعتبارها “لا تصلح للقيادة”. لم تبال لكنها تفاجأت عندما طلبت مجموعة ليست بالقليلة من الرفيقات كتابة اسمها على السبورة أيضاً وذلك لمعرفتهن بطيبتها وفي محاولة، سيكتب لها الفشل الذريع، للتخلص من لئمنة وظلم عريفة العامين السابقين.

حازت على أكبر عدد من الأصوات، أعلنتها الآنسة عريفة للصف على مضض كما أعلنت عريفة العامين السابقين كنائبة والتي نالت أصوات بنات المعلمات والرفيقات المحبات للتملق والثالثة كأمينة سر والتي لم يعرف أو يهتم أحد للسر الذي كانت أمينة عليه.

ألقت عليها الآنسة محاضرة مطولة، عن مهامها كعريفة صف في منظمة طلائع البعث وأهمها الحفاظ على الصف هادئاً في غياب المعلمة أو أثناء انشغالها، كما كلفتها بتحضير دفتر للطلائع حيث عليها تزيينه بصور الأب المفدى وكلماته الخالدة إضافة إلى شعار الطلائع وذلك لتسجيل محضر اجتماع الطلائع نهار كل اثنين. مع أن المعلمة تعي مسبقاً عدم جدوى هذه المحاضرة لأن هذه الرفيقة الرقيقة ستفشل بأداء المهام الموكلة إليها، لكنها لم ترد تقويض مبادئ الحزب العملاق أمام الرفيقات ذوات الثمانية ربيعاً.
كل ما فرحت به العريفة الجديدة هو الشرائط الملونة التي جلبها لها والدها في نفس المساء من المكتبة لتعلقها لها أمها صباح اليوم التالي قبل ذهابها إلى المدرسة على كتف مريولها بدبوس صغير.

بدأت أداء مهامها كعريفة للصف بإحساس لا يخلو من الهم والغم،
دخلوا إلى الصف بعد الاصطفاف وبدأ الهرج والمرج، طلبت منهن السكوت بأسلوبها اللطيف المعتاد لكنهن لم يتوقفن عن تبادل الأحاديث بصوت عال والتجول بين المقاعد. النائبة وقفت في الزاوية تراقب دون أي تدخل وكلما علا صوت الفتيات كبرت ابنسامة الشماتة المرسومة على شفتيها.
انقطع الهرج والمرج مرة واحدة بصوت عصبي من المعلمة الداخلة إلى الصف كالغول
تكتفت الرفيقات في لحظة واحدة لتجد العريفة نفسها وحيدة أمام المعلمة التي طلبت منها أسماء المشاغبات لكنها رفضت أن تشي بأي من زميلاتها.
عادت إلى مقعدها محمرة الوجنتين بعد أن وبختها الآنسة بينما لمحت ابتسامة خبيثة على وجه النائبة.
تكرر الأمر بعد الاستراحة الأولى والثانية ويوماً بعد يوم أيضاً، بل ازداد الوضع سوءاً. فالرفيقات يطمعن بكرم أخلاق العريفة التي تمنعها من إفشاء أسماء المشاغبات بأي شكل والنائبة تزداد سعادة مع كل فشل للسيطرة على الصف ووتيرة العصبية عند الآنسة تزداد والتهديدات تكثر حتى أنها ضربتها في مرة من المرات بالمسطرة عشر مرات تنفيذاً لهذه التهديدات لكن دون جدوى.

أحست العريفة أنها بورطة كبيرة لكن لم يخطر ببالها أن تتنحى في ظل تفاخر أمها أمام الجيران وإحساس والدها بالفخر أمام بائع المكتبة عند شرائه للشرائط.
احتملت الآنسة الوضع لأسبوع واحد، ففي أول حصة يوم السبت الواقع في ٣٠ أيلول ١٩٩٥م الموافق لـ٥ جمادى الأول ١٤١٦هـ، عندما دخلت الضف، لم تجد الفوضى عارمة فحسب بل وكانت العريفة تلعب “جماد بلاد” مع بعض الفتيات، ودون أن تتفوه بأي كلمة، هجمت على العريفة، فكت بعنف شديد الدبوس الذي وضعته يد أمها الأسبوع الماضي بكل حب وحنان ورفق ووضعت الشرائط على كتف النائبة لتصبح العريفة الجديدة للصف، تمت ترقية أمينة السر إلى منصب النائبة واختارت أمينة سر بالتزكية دون انتخابات ديمقراطية ضاربة بعرض الحائط مبادئ الحزب دون اعتراض من أي رفيقة أو حتى انتباه، لا لشيء فقط لأنهن لا يعين شيئاً من هذه المفردات المدخلة عنوة إلى رؤوسهن الصغيرة.

اعتباراً من هذه اللحظة سيتحول الصف إلى هادئ جداً فلم تنس الرفيقات ألم أصابعهن الصغيرة من ضربات المسطرة بعد عدم تواني العريفة بالوشي بأسمائهن العام الماضي. لم ينسين أن الالتفاتة بالرأس قد تعني وقوف حصة كاملة على السبورة، وأن الاسم الذي يتكرر ثلاث مرات ترسل صاحبته إلى المديرة وما أقبح مكتب المديرة بما فيه. لم ينسين عقوبة نسخ الدرس عشر مرات لكل من تخرج من مقعدها، هذا دوناً عن التوبيخ والتحقيرواستدعاء أولياء الأمور.

جلست المعلمة بعدئذ لتصحيح الدفاتر وطلبت من العريفة الجديدة كتابة اسم من ستهمس أو تتحرك نظرت إليها العريفة الجديدة وتبادلا ابتسامات فيها الكثير من التفاهم
والتواطؤ والرضا.

ثم بعيني ذئب بدأت تمشيط الصف لتبدأ بكتابة الأسماء على الرغم من الصمت الجاثم. فلا بد من التفاتة هنا أو هناك، أو ربما بدون سبب؛ فإن عوقبت إحدى الرفيقات دون ذنب سيكون إجراء احترازي لتخويف الجميع منها وليطلبوا رضاها، بكل الأحوال المعلمة ستصدق العريفة دون باقي الرفيقات بل ولو علمت الحقيقة ستكون راضية عن هذه السياسة الحكيمة التي أثبتت جدواها لسنتين.

أحست العريفة المقالة بالفشل وخصوصاُ أمام نشوة انتصار العريفة الجديدة ورضا الآنسة، كما حزنت على الطريقة المهينة لتسليم منصب العرافة. وحتى آخر لحظة تمنت لو تهمس أو تتحرك ولو رفيقة واحدة كنوع من الوفاء أو رد الجميل لها ولتقلص هذا الفارق الجم بالأداء لكنهن كن كالنعجات وكانت العريفة كالذئب المتربص بهن.

على الرغم من الإخفاق، على الرغم من الفشل، على الرغم من الإهانة، على الرغم من خذلانها لوالديها، كل هذا لا يذكر أثره أمام حزنها على الشرائط الملونة.

 

 
———————————————————————————-
* اعتادت طالبات سوريا في المدارس الابتدائية الاصطفاف ثلاث مرات في اليوم قيل الدخول إلى الصفوف
الإيعازات
رتلاً أحادياً رتلاً ترادف- ثورة (تمد كل رفيقة طليعية يدها على كتف زميلتها أمامها وتدور المعلمة في هذه الأثناء لتتأكد من أن الرتل مستقيم عن طريق ضرب الرفيقات بالمسطرة ضرباً خفيفاً على الكتف)
أسبل (لم تعرف معظم الطليعيات يوماً معنى لهذه الكلمة)- طلائع (وترخي الرفيقات أيديهن)
استرح -عروبة (الأيدي وراء الظهر والأقدام مبتعدة عن بعض)
استعد- بعث (وضعية الاستعداد)
أمة عربية واحدة- ذات رسالة خالدة (لطالما ظنت إحدى الطليعيات أن الرسالة مكتوبة وموضوعة بدرج مكتب طلائع البعث)
أهدافنا- وحدة حرية اشنراكية

رفيقتي الطليعية كوني مستعدة دائماً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد والدفاع عنه- مستعدة دائماً (ترفع الرفيقات اليد اليمنى بشكل يشبه تحية هتلر بينما كل ما يعنيه هذا القسم لمعظمهن اقتراب نهاية الاصطفاف)
قائدنا إلى الأبد-الأمين حافظ الأسد (كان هناك خلط بين الله والأب المفدى عند أكثر من رفيقة حتى أن أحدى الرفيقات في الصف الأول كانت تنال عقوبة من والديها إذا أساءت إلى أحد رموز النظام أو الحزب أشد من عقوبتها إذا أساءت إلى الله)
إلى الصفوف (يداً بيد، اثنتين اثنتين إلى الصف حيث تراقب مجموعة من طالبات الانضباط الرفيقات كي لا يتحدثن أثناء الدخول

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

تعليق واحد

  1. نعم هو بالضبط كذلك ما جرى معي عندما كنت في الابتدائي ولكنه كان بالنسبة لي حلما ان أكون عريفة للصف لأمنع مهاترات طلاب الصف لي …ولكنني لم انجح بالحصول على هذا المنصب ربما لأنني كنت متسامحة جدا ولا أحب الظلم لأحد.
    أما بالنسبة لتردد الشعارات التي كنا نرددها بشكل يومي ودوري بأت أحس بأنها كلمات لا تحمل سوى معنا للاضطهاد والظلم.
    فعندما نردد شعار : أمة عربية واحدة …نضحك مع عدد قليل من المقهورين مثلي في الرتل المصفوف ونقول ..ذات صرماية خالدة….

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.