الصفحة الرئيسية / زوايا / مجند، مؤجّل، فراري

مجند، مؤجّل، فراري

رزان
خاص بدحنون
 

– “ايمتى رح تلتحق؟”
– “سجلت بفرع جديد بالجامعة ,أجّلت الالتحاق”

تلقى المجند على الحاجز هذا الجواب واجماً من صديقه الراكب في الحافلة، كان المجند قد اوقف الحافلة للتفتيش المعتاد على حاجز قرب دمشق. تهلل وجهه لرؤية الصديق الذي وعده قبل عام بأنه سيلتحق بالخدمة العسكرية حالما يتخرج، فإذا به يفاجأ بأن الصديق مدد فترة دراسته وسجل في فرع جديد لا علاقة له بدراسته السابقة، حتى ينال استحقاق تأجيل خدمة الجيش.

المجند فراس، ابن الثالثة والعشرين. لك ان تلمح في عينيه كل انواع الشجن، الشوق للأهل والخوف من المجهول، والحنين لأبسط اللحظات اللاهية التي يرى المارة من حوله غارقين فيها، أضاف له صديقه الجامعي المقبل على الحياة  والدراسة وربما السفر، مزيدا من القلق، واجابه محاولا ان يضحك: “ستدرس مجددا؟ انت من يكره الدراسة وامضى اربع سنوات في البكالوريا!! على كلّ، موفق”

يتحدث فراس بغصة عن احلى ايامه مع افراد شلته متنوعة الطوائف. يقول: كنا سنلتحق جميعا بالخدمة الالزامية في الوقت نفسه محاولين ان نبقى معا في (القطعة) نفسها، حتى هذا كنا نخطط بأن لا نفترق عن بعضنا فيه !، جاءت الازمة وتبددت مخططاتنا كما مخططات كثيرين. بعضنا سافر والاخر يخطط للسفر، وثالث سمعت انه “فراري” انضم لـ (اولئك) .. وانا هنا .. أتمنى ان ننتهي من كل هذا لأعود الى أهلي وقريتي، وأتزوج، لم اعد اريد المزيد.

يحاول اثناء التفتيش تبديد قلقه بالمزاح. يفرح عندما يتجاوب معه الناس ويقول انه كون صداقات مع الذاهبين والعائدين من دمشق كل يوم ، (نعم هناك من ينظر الي بريبة. عادي، الريبة باتت تحكم كل تصرفاتنا. عليّ الارتياب بكل هوية مكسورة، بكل مواطن قادم من مكان متمرد على  الدولة).
كان يفترض بخدمة فراس ان تنتهي قبل عام لكن الاستنفار تطلّب الاحتفاظ به – الآلاف حصل معهم ذلك , ومنهم من عاجله الموت قبل  تسريحه بأيام , “هيك الله كاتبلن” – يتذكر من هؤلاء صديقه (عامر) الذي رحب بالتمديد دونما ضيق، وكان مستعدا لكل الاحتمالات، بعكس والدته التي  فجعت به ومازالت غير مصدقة ورافضة للقيام بواجب (زيارة قبر). عندما احضروا تابوته اغمي عليها قبل ان تراه. لا تريد رؤية قامته الفارعة في تابوت.

شبان آخرون تأجل التحاقهم بالجيش لأسباب مختلفة يمرون بالحواجز يوميا، يحصي كل منهم كم يوما بقي له قبل ان يلتحق، يبدو انتظار بعضهم خاليا من التوتر بعكس آخرين. يقول احد الذين انهوا الخدمة  قبل اكثر من عشر سنين: اخي الاصغر سيلتحق بعد فترة، من خوفي عليه اتمنى ان اموت كي يصبح وحيداً، فلا يكون ملزماً بالذهاب. هو ينهرني عندما اقول  له ذلك، يؤمن ان هذه الخدمة واجب عليه، فأصمت.

(اب عدنان) -كما يكنّيه رفاقه – بات مختصاً بدواعي التأجيل، يقوم بزيارة سنوية الى مديرية التجنيد لتقديم اوراقه. انتزع لقب (مؤجِّل) و(مؤجل ويعيد) عدة مرات، يقول في كل مرة (اذا لم انجز المعاملة على خير، سأسافر). يؤجل غالبا بداعي الدراسة، واليوم بصفته المعيل الوحيد للأسرة بعد سفر اخيه. يؤكد بان المعاملة قانونية، لكنها (فرّخت) معاملات فرعية متعبة، بسبب جنسية جده الفلسطينية.

شعبة التجنيد في محافظته خرجت عن الخدمة كما خرجت  المحافظة كلها، وحتى الذهاب الى الشعبة التي نقلوها الى دمشق بات محفوفاً بالمخاطر لوقوعها على اطراف منطقة ساخنة. يعتب بسخرية على جده ووالده الذي لم ينقل قيد نفوسه الى دمشق، (لا أنتسب الى فلسطين الا بكونها مكتوبة على هوية والدتي، ولم ازر مدينتي الاصلية ولا مرة. ومع ذلك، تلاحقني الاماكن لتجعل معاملة التأجيل اصعب واعقد، الموظفون يستغلون وضعي، واذا خضعت لمنطق الرشوة اجد سعر المعاملة ارتفع بجنون كما سعر كل شيء.

يقول ان الموظف طلب منه ٣٥ الف ليرة ليسرّع انجاز هذه المعاملة القانونية مئة بالمئة، وعندما رفض اعطاءه المبلغ قوبل بالسخرية وباتهامه بأنه لا يعرف (تدبير اموره)، هذه الجملة التي تعني الانخراط في الفساد وتشجيعه باتت ميزة للأذكياء، والا فلا مكان لك هنا ولا حقوق، ولا عزاء لمن لا واسطة له بالمال او العلاقات. منطق سائد في ايام الحرب والسلم على السواء. يجعله هذا يحسم قراره بألا ينجب (عدنان) هنا

 

الصورة المرفقة: مدفع، دبابة ولحم –  لمحمد عمران 

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.