جنازات…

كدمات 
يوسف أبو خضور
 
 

١
مساءٌ هادئ ممطر في قريتي البعيدة..
خطوات المشيعين وئيدة..
وجوههم بيضاء بلا ملامح، بلا حياة..
يحملون نعشي و ذاكرتهم تستحضر صوري ، و آخر رؤية لي..
همس أحدهم : كان رساماً…
سمعته.. تذكرت ريشتي و آخر لوحاتي تمنيت أنْ تُمنح لي الحياة ساعة أو اثنتين لأرسم جنازتي..
صفان من الأشجار و بينهما هذا الطريق الموحل المودي إلى السواد و التابوت فارغ يزحف بلا مشيعين، ملفوف بعلم البلاد الممزق، و جثتي بعيدة … بعيدة في القرية التي قَتلتُ و قُتلت فيها، مدفونٌ في مقبرةٍ جماعية بلا ترتيب، بلا هوية أو رسالة تعريف صغيرة. منسيٌ مع أصدقائي الذين سارت في مدنهم و نواحيهم جنازات بتوابيت فارغة ملفوفة بعلم البلاد الممزقة..

 

٢
صخبٌ يحيط بنعشي و هذي الأهازيج تقلقني، و الرقص ما زال يلتهب في قدميّ، قلبي ما زال يرتعش بالحياة.
البارحة كان رأسي بين هذي الرؤوس، و اليوم صباحاً وقع في عين قنّاص فأرداه..
لم أكن ميتاً…كنت عاجزاً عن إخبارهم بأنني حيّ..فقط.
عندما هدأ الدوران و سكنت الأصوات..
رأيت إبني يقترب من جثتي … هذا الذي كان يهرع إلي عندما أعود مساءً بضحكة صافية، لأسمع فيها خطى الملائكة في السماء و رنين ضحكاتهم التي من نور.
رأيته اليوم و قد لفه السكون يتنفس قرب وجهي ناراً و عيونه فارغة…رأيتُ في فراغ عينيه ظلّي و أنا عائدٌ مساءً و سمعت فيها ضحكته تلامس السماء..
بحثتُ في جنازتي عن أبي ….أبي الذي كنت أهرع إليه قديماً عندما يعود مساءً و أضحك حتى تختنق ضحكتي في رائحة صدره القوي…

 

٣
لم يكن الأمر يستحق جنازة..
كانت أمي تحرك رأسها يميناً و شمالاً تكلّم نفسها و تكلّمني، تقترض من الماضي دقائق لتعيدني حياً..
لو أنني ما تعجلتُ في فطوره..
لو أنني أطلتُ إخفاء عطره العزيز……..
-لم يخرج أحد في جنازتي..
إلا أبي المنهك خرج يبحث عني في ساحة الإنفجار..
لم يجد شيئاً إلا اليقين بأنّني كنت الأقرب للقنبلة..

 

٤
جميعهم لا يريدون وصول المقبرة..
خطواتهم تتردد، تريد العودة..
كل العيون ترقب صديقي….كان يقسم أمامهم أنّ موتي شرف..
و أنني ما خنت العهد، و أنّ وجودي بين الجنود ساعة الهجوم كان حيلة..
لكن الخطوات ابتعدت و تلاشت الجموع..
كنتُ مطمئناً مع صديقي الذي دفنني وحيداً..و عندما غادر كتب أهل البلدة القساة على شاهدة قبري بالأسود
(خائن)..

 

٥
أمّا أنا فكنت أراقب جنازتي من زنزانتي، بعد أن رفض سجّاني إخبار أهلي بأنني حي..
كانوا يهيلون التراب على أشلاء رجل آخر..
كانت أمه بجانب أمي تبكي حزناً عليها..

 ———-
الصورة: مقطع بالأبيض والأسود عن تشكيل (قبر جماعي) للفنان عبد الرزاق شبلوط

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.