الصفحة الرئيسية / زوايا / بشر زائدون عن الحاجة..

بشر زائدون عن الحاجة..

طارق صبح

 

عند معبر اليرموك، بمدخل المخيم، كل شيء لدى عناصر النظام وشبيحته يوحي بإجازة مفتوحة للاسترخاء بدون قرف الناس والتفتيش على الحاجز. على الرغم من كل الغنائم التي ينهبونها منهم عند المرور، لكن هذه أيام إجازتهم، ولن يعكر صفوها (حيوان) مثلي.

– لا تقرب لهون ولك حيوان، مافي فوتة..

تراجعت متمهلاً، أنظر في وجوه من افترش الأرصفة من يومين وثلاثة بانتظار أن تنتهي هذه الإجازة الملعونة.
عجوز تحتضن كيس الخبز لزوجها العاجز وبناتها وأولاد ابنتها التي قُنص زوجها على نفس الحاجز قبل شهرين.. وأخرى تحاول إبعاد أكياس الخضار القليلة التي اشترتها في الأمس عن الشمس كي لا تذبل، فلن تستطيع شراء غيرها..
شاب يحاول إخفاء قلقه على زوجته وأولاده بمحاولة الاقتراب من الحاجز متراً بعد متر، عسى أن تنتهي الإجازة فجأة، فيكون أول الواقفين في طابور التفتيش، وبالتالي أول الداخلين.. أو ربما.. أول المقنوصين.
يأتي أحد الرجال ويقول هناك طريق وحيد من مدخل (سبينة) يمكن الدخول منه، لكنه غير آمن.. كل من كان جالساً أصبح على قدميه وكأنه يرى طوق النجاة من بعيد..

– الله بيسرها يمّا، تقول العجوز وهي ما تزال تحضن كيس خبزها..

هذه الجملة كانت كافية للجميع لحسم القصة نهائياً، لحظة واحدة كانت كافية للجميع لأخذ القرار، والإصرار على الوصول لهذا الحاجز مهما كانت الخطورة… إلى سبينة..
تبدأ الرحلة بإيجاد وسيلة نقل إلى أتوستراد صحنايا القديم ثم الوصول لهذا الحاجز، باص قديم أوصلنا إلى مفرق سبينة على أستراد صحنايا.. أخبرنا أحد الخارجين من هناك أن الحاجز على بعد 2 كيلو متر..

– بسيطة يمّا.. قريب.. توكلوا على الله.. قولوا باسم الله.. شباب أنتو، بينخفش عليكو..

لربما كانت كلمات هذه العجوز كبلسم يزيل كل الأوجاع، ويجعل كل الطرق سهلة وبسيطة، ويجعل الوصول إلى الحاجز كنزهة قريبة.. ووصلنا إلى الحاجز.
كغيره من الحواجز طابور، تفتيش، إهانات.. المسموح ربطة خبز واحدة، كيلو بندورة واحد، ما يكفي لشخص واحد.. وهكذا..
إحدى النساء كانت تحمل أكثر من ربطة خبز واحدة، وطفليها بحقائب المدرسة أيضاً يوجد ربطة خبز في كل منها.. حظها العاثر شاء أن يكون العسكري بمزاج سيء فانهال عليها وعلى طفليها ضرباً وشتيمة حتى جعلها تقبل حذائه أن يترك الطفلين ويأخذ كل شيء..

– بعمل شو ما بدك بس اترك الولدين..
– معلم هي متل أختك، اتركها خطي يقول أحد الرجال الواقفين على الطابور.. يرد عليه بصفعة تجعل كل مافي وجهه يقطر دماً.. ويتوجه للطابور مهدداً
– أنا ماني أخ ولا واحد فيكن، أنا بدي ربيكن، بهاد البوط بدي ربيكن، والزلمة فيكن يرفع راسو..

لربما لو أخذ سلاحه وقتلنا جميعاً سيكون أخف وطأة من هذا التهديد.. على الأقل لن يكون أحد منا مضطراً ليجد التبريرات لنفسه تعويضاً عن نخوة ماتت، أو كرامة لم تعد موجودة.
كنز تفاؤلنا، العجوز التي كانت تدفعنا للوصول جاء دورها على الحاجز، في التفتيش يمسك العسكري كيس البندورة ويسألها

– كم كيلو هدول
– كيلو ونص يما
– أنا مو ابنك.. ابنك بالبيت مو هون..

تجيبه بابتسامة احكي متل ما بدك، بتضلك متل ابني..
يمسك العكسري حبات البندورة ويرمي منهم اثنتان.. هلأ صارو كيلو.. يلا انقلعي..
بقدرة قادر أمرّ أنا مع الرجلين الذين خلفي بدون أي شيء.. ونعبر الحاجز ونقف بعيدين بانتظار بقية من كانوا معنا..
تأتي تلك العجوز وما زالت مبتسمة البندورات يلي زتن فيونش إشي، جبتهم..

لم يأت الجميع، علمنا بعدها أن من كان من سكان مخيم اليرموك ممنوع من الدخول، وبدأنا بالسير بحثاً عن طريق إلى المخيم.. مسافة لا تقل عن 5 كم كل ما فيها مهدم ومدمر.. أثار القصف والقتل في كل مكان، لم يسلم شيء من الرصاص أو القذائف.. جثث هنا وهناك على أطراف الشوارع.. فأقصى ما يمكن عمله لإكرام الميت هو تنحيته من وسط الطريق..
باختصار، ربما رائحة الحياة تحتاج لأكثر من نبي جديد حتى تعود..
امتد الطريق لأكثر من ساعتين ركضاً بشكل متواصل بين الأنقاض دون توقف للوصول إلى الحجر الأسود، هرباً من القنص والقذائف في كل مكان..
في اليرموك، وبعد فرحة عجوزنا بوصولها بالسلامة، وتوزيعها لربطة خبز كاملة على الناس شكراً وحمداً لربها على وصولها بالسلامة، لا ترى سوى وجوه أضناها الجوع والقهر، فهم محاصرون بلا خبز منذ أربعة أيام، ولا كهرباء منذ أكثر من شهر.. ولا حتى أدنى مقومات العيش، وجوه تائهة وضائعة لا تعلم ما يخبئ لها الغد، مصيرها هو بين يدي من يحمل السلاح من كل الأطراف.
من بقي في مخيم اليرموك ومناطق جنوب دمشق، يصارع للبقاء على قيد الحياة، ربما محاولين البقاء على ذاكرتهم وما فيها من حب وجمال مضى، كشاهد أنهم كانوا في يوم من الأيام بشراً..
فهم الآن.. بشرٌ زائدون عن الحاجة.. بشرٌ للرمي، ولا يستحقون الحياة..
فحطام نوافذ أي بناء في وسط دمشق تستحق أكثر منهم البكاء عليها والحديث عنها..

 

 

.

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

تعليق واحد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.