الصفحة الرئيسية / زوايا / غبار اليوم التالي – الفصل ١٧

غبار اليوم التالي – الفصل ١٧

عاصم الباشا

 

ثمة في الضيعة امرأة عجوز ما زالت تمتلك أسرار صنع التنّور. كان قد رآها في فتوّته تضرب عجينة الصلصال المخلوط بوبر شعيرات الماعز الدقيقة، ذلك الغبار الذي يملأ أماكن غزله ويتراكم مع الأيام على الأرض والأشياء وفي الرئتين. يذكر اندهاشه من شدة اللطمات التي كانت تكيلها تلك المرأة على الصلصال المطواع ومبلغ حذاقتها.
ذهب عصر احد الأيام لمقابلتها.. تهمه معرفة منشأ التربة. ربما لاءمت النحت.
بيتها ما زال في الحقول فالعمران لم يزحف صوب الأراضي المنخفضة مخافة من السيول، كذلك الذي شاهد لواء آثاره طفلاً بعد أشهر معدودة من حلولهم في الضيعة.. بعد عبور البحار..
باب السور الطيني مفتوح. رأى عبره طفلاً وامرأة. حيّاها ليسترعي انتباهها :
– يمسّيكم بالخير.
التفتت صوبه :
– مساء الخير.
وتقدمت من الباب.
– عفوًا.. أهذا بيت أم طاهر ؟
– امرأة عمّي ؟ – سألته وقد وضعت يدًا على عارضة الباب ونمّ وجهها عن فضول ثم أضافت : – أيوه.. تفضّل.
صدر من جوف الدار صوت عجوز حادّ :
– مين يا بهيّة ؟
ابتسمت المرأة التي تبيّن لواء أنها حامل. كانت ترتدي بنطال البيجاما تحت فستانها. قالت له :
– انها امرأة عمّي.. تفضّل.. خير ؟
– لا، مجرّد سؤال عن صنع التنّور..
وعندما لاحظ استهجانها أوضح وقد لمح العجوز تطلّ من باب مؤدٍّ إلى أرض الدار :
– مجرّد سؤال.. لا غير..
استقبلته بجسدها الصغير الناحل المحدودب، ولفظت من بين فكّين لا يذكران الأسنان :
– يا أهلاً يا ابني.. أهلا وسهلا..
– بالمؤهّلة يا خالة.
– ابن مين انت يا ابني ؟..
– ابن أبي منذر.. واسطي العال..
خشي ألاّ تعرف والده، لكنها وضعت على جلد خدّها يدًا تشوّهت أصابعها وهمهمت لنفسها “ أبو منذر.. أبو.. “ ثم كأنها فطنت :
– الأمريكاني ؟
– نعم يا خالة.
فبشّت به صادقة.
– يا أهلاً يا أهلاً.. والنعم.. زين الرجال والله.. ما حدا ماشي دغري مثله.. لا والله.. كيف أحواله ؟
صعق قليلاً. التفت يستنجد بالمرأة الحامل لكنها كانت قد غابت في داخل الدار.
– أعطاك عمره يا خالة..
بهتت العجوز. وجهها الذي يبدو كثمرة سقطت من شجرة وراحت تتجعد مع جفافها قادر ما زال على ردّ المباغتة:
– كيف؟!.. متى ؟!
ضربت كفًّا بكفٍّ كأنها تمسح عنهما غبار وأضافت:
– رحمة الله عليه.. والله يا ابني ما عندي خبر !.. الله يرحمك يا بو منذر!.. ما تؤاخذني يا ابني، أنا هنا مقطوعة.. خلّها لربّك.. صار لي..
– بسيطة يا خالة.. ما عليك..
– صار لي عمر ما رحت للضيعة ولا أشوف حدا.. ما حدا يخبرني..
أخرجت المرأة كرسيّين واتجهت نحوهما بينما وقف الطفل يحملق به. قالت العجوز :
– اقعد يا ابني..
تأنّت في جلوسها كأنها تخشى ملامسة عظامها للخشب. بادرها بعد أن استقرّت :
– أنا يا خالة جاي أسألك معروف..
– تفضّل يا ابني.. أنا ما عندي شيء كثير ولكن..
– أذكر انك كنت تصنعين التنانير..
قالت بشيء من الزهو :
– مضبوط.. كل عمري اشتغلت التنانير.. لكن صار لي زمان..
فقاطعها :
– أريد أن تدلّيني من أين كنت تأخذين التراب.. بودّي أعمل تجربة.. شيء مختلف..
– الطينة ؟.. من أسفل العقبة.
ولمّا ألفته متردّد الفهم سألته :
– تعرف كروم الشميس ؟
– أيوه.
– لقدّام شويّة.. بعد المغارة السودا بخمسين فشخة على يدك الشمال. – ثم أضافت بعد هنيهة غاب بصرها فيها في نقطة ما سحيقة : – لازم يبيّن.. أنا صار لي عشرين سنة ما رحت.. بسّ أكيد مبيّنة الحفر. طول عمرنا نأخذ التراب من هناك.. من أول ما خلق التنّور.
تأمّل يديها المستندتين على ركبتيها. يدان ورثتا تقاليد وخبرة آلاف السنين.. على الرغم من تقوّس الظهر بدت له ممتشقة الجذع.. رأسها مرفوع باعتزاز موغل في القدم. متلفّعة بالمنديل الأسود الملتفّ على حطّة أعلى الجمجمة، والشناشيل تنسدل من جانب بدءًا من صدغها الأيسر. وجه صغير دمغه الزمن بتجاعيده، يشعّ طيبة من لم يعش عبثًا. اشتمّ رائحة الخبز. رأى الوهج، تذكّر سطوعه على وجوه ملايين النسوة وهن ينحنين لصفع جدار التنّور الداخلي برغيف اقتات منه تاريخ بأكمله. انها قصة البشر، قابعة أمامه. حكايات جوع وألم ورفاه الشبع.. إليها، بها، ينتهي تاريخ مديد، يضمحلّ معها تقليد وتنقرض خبرة نبيلة.. أمامه، ترمقه الآن بعينين صغيرتين تسعان الكون، ابتسامتها من غضون الزمن. شعر بالرغبة في ملامسة تلك الأصابع بخشوع من يتمسّح بقدس ما.
أيقظته :
– ابني مسافر في الكويت وإلاّ لكان راح معك ليدلّك على المتربة.
اضطرب من وقع عودته إلى الكوكب، لكنه استطاع أن ينطق :
– ولو.. شكرًا.. لا داعي يا خالة.. صرت أعرف..
قام مستودعًا :
– بيت عامر يا خالة.. لا تزعجي نفسك.
هرع الطفل إلى أعماق الدار في وقت نهضت فيه العجوز على مهل وقالت :
– لكننا ما ضيّفناك شيء يا ابني..
– يسلّم يديك..
صدرت منه عفوًا، جري العادة التي جبلت عليها حوارات الضيعة. توقف بفكره عند العبارة : “ الله يسلّم يديك.. آه لو يسلّم يديك يا خالة ! “
– معادة يا عيني.
قالت له عندما أصبح ضمن اطار الباب، فأجابها مرتبكًا :
– يسلّم يديك.

ذهب في الغد مع جار تطوّع لنقله على درّاجته النارية وجلب كمّية من التراب. جبله وشكّل به امرأة جالسة مستقيمة الجذع، مرتدية زيّ الضيعة وقد أراحت يديها الرائعتين على ركبتيها. وكأنها جلست لتبقى ما دام في الزمان زمن.

 

هامش
— — — — 
* الفصل السابع عشر من ” غبار اليوم التالي” 1996
الصورة: من صفحة الفنان على فيسبوك

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.