الصفحة الرئيسية / نصوص / شهادات / تاريخ من لا تاريخ لهم – ٤

تاريخ من لا تاريخ لهم – ٤

أحمد سويدان

 

الأربعاء 9/1
تزداد الذاكرة في السجن صفاء، وتبرز صور من الحياة شتى. كان الإنسان قد سلاها. بل وغاضت نهائياً، وامَّحت .. من جديد تنبثق شيئاً فشيئاً .. هكذا حدث معي. لكن الغير يقول أن السجن يقعد الجسم، ويثقله بالأمراض، ويفتت النفس .. يشتتها، ويبعثر انسجامها ثم ينهكها، وبدلاً من الصفاء، تصبح مشوشة، ومتوترة، ومن هنا تصبح فريسة للفصام. والإرهاق، والإحتقان، والهذيان .
لكن الذاكرة – برأيي – تزداد حضوراً بسبب معاشرة السجين لنفسه، وتأمله المستمر في تفاصيلها .. الرؤيا دوماً تلمع، والرؤية الداخلية تزداد بريقاً.
عندما ودعنا معتقل تدمر كان يلازمني الشاب ج. ق. قال لي في الطريق، ونحن مشدودون بالسلاسل، وجالسون على البنك الخشبي القاسي في (الديزل) العالية. المغلقة المحروسة بالبنادق، والأبواط. قال: كما كنت أنام إلى جوارك في تدمر ونحفظ سوية، ونتحدث كذلك، ستكون الأمور في تلفيتا. وفعلاً صرنا إلى مهجع واحد، واختار أن ينام إلى جواري.
ج. شاب وسيم طويل من مواليد 1958. والده ضابط متقاعد من العوائل الحموية القديمة، وهو ضابط مهندس دبابات. خريج بلاد السوفييت. وهو عازب.
كان يتأمل كثيراً في ذاكرته. يقول لي أنه يرحل، ولا يتمنى انقطاع رحلته، إلى أيام طفولته ويفاعته، يتكلم عنها بلهفة، واحتضان، ويحتفن من معينهما، وكلما احتفن كلما ابتعد، ونأى عن واقعه.
إلى جانب ذلك كان في تدمر يقرأ، ويلعب الورق. أحياناً يدخل هذه الأوهام في نقاشات وشجارات لا معنى لها ..
وأخذت تتسلل إلى ذهنه الأوهام، وشيئاً فشيئاً صارت هذه الأوهام في اعتقاده تتشكل لتكون حقيقة، ويبدو أنه صار يسائل نفسه حزيناً:
– لماذا جئت إلى هنا؟
– لقد ضاعت فُرصي، وانهار مستقبلي.
– لماذا كان مصيري إلى ما أنا فيه؟
وصار يميل إلى الانطواء، والانزواء، وقلة الكلام، وإذا سأله أحد عن حاله مال إلى العنف في الجواب.
ماذا أقول؟ بعد عامين من وصولنا إلى سجن تلفيتا. تم إخلاء سبيله من قبل لجنة أطباء نفسانيين وبعد أن مثل أمام اللجنة أكثر من عشر مرات كان يهاجمه العصاب، فيزرق بإبر تحتوي على مخدر شديد الفعالية أتذكره الآن، وأتذكر الأيام الجميلة التي عشتها إلى جواره.

 

الخميس 10/1
يبدو أن الأنظمة العربية القطرية الحاكمة ليست حقيقية، ولا تقدر أن تكون وطنية لأنها بعيدة أولاً عن هاجس التعاون من أجل التوحيد، ونائية عن العدل، والإنصاف، وبما أنها كذلك، فإنها ملأى بالجور والتبعية والنفاق .
في لبنان، حيص وبيص، ومحاولة احتواء قسري من قبل النظام السوري /بكرت/ مفتوح من واشنطن لدوس الامتداد الفلسطيني، ولمنع القوى الوطنية أن تؤسس لبؤرة.
وفي العراق طيش واستبداد، فبعد الحرب مع إيران من قبل النظام .. الآن حرب ضد الكويت. حاكم العراق بدفع من الخارج، بدفع من نفسه الأمّارة بالطيش والبؤس يريد أن يكون مسمار العرب ضد الشعوب الإسلامية وخاصة الشعب الإيراني، والشعب الكردي وضد العرب باسم الثورية، والعداء لأمريكا وإسرائيل.
أنظمة الجزيرة العربية النفطية أفسدت المنطقة بأموالها، وأفسدت النفوس، ودفعت الجميع منذ عام 1971 إلى المثول أمام جلاوزة الإمبريالية، وتقديم الحساب.
أما صاحبا الرسالة الفعلية. حاكم مصر، وحاكم سورية، فقد كشفت المواجهة في الخليج على أنهما من نفس الخط، ومن نفس السلالة .. المعلم واحد وهو الأمريكان .. هما يحاولان أن يكونا غير ذلك، وأمريكا تريد أن يكونا دوماً في صفوف اليسار وضدها ظاهراً.

إن الاستبداد، والاستئثار بالحكم يخدم الأمريكان، وفي هذه الخانة يصب كل الحكام المستبدين في هذا الوطن بخانة الأمريكان وإسرائيل.
الملك المغربي ينادي كذلك بالعقل والعقلانية، وكأن إسرائيل عاقلة، وكأن أمريكا عاقلة , وكأن العرب قد انفلت منهم زمام العقل. معنى هذه الدعوات والنداءان أن نستمر تابعين ولا نقول للأمريكان أن من حقنا الوجود، لقد كشفت الحرب في الخليج عن تبعية حكامنا.
هل يستمر العراق في استفزازه ممثلا قمة الطيش ؟ ..

 

 

الجزء السابق

عن أحمد سويدان

أحمد سويدان
أديب وصحفي متقاعد من مدينة السلمية، معتقل سياسي سابق لمدة إثنا عشرة عاماً ونصف 1982- 1994. أصدر بعد خروجه من المعتقل ثلاث روايات قصيرة: الزمن العقاري، كذبة نيسان، ومرآة الأنام، حيث تمكن من إعادة انتسابه لإتحاد كتاب العرب، بالإضافة لمجموعة قصصية عن مدينة السلمية بعنوان "خيوط تقطعت".

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.