الصفحة الرئيسية / نصوص / المكتبة / الولعة (رواية للفتيان وللنفوس الفتية) – الوطاءة

الولعة (رواية للفتيان وللنفوس الفتية) – الوطاءة

عاصم الباشا

 

يتبدّى التوحّش والشرّ أحيانًا بصورة جماعية، وكأنما التهيّؤ لضرورة حلول ذلك يتنامى في النفوس دون نأمة أو إشارة تعكّر من السكون الظاهري للبشر.. وفي الوقت ذاته، لينفجر كما الثمرة إذ يأتيها النضج، أو زهرة الصبّار البعيد التي تزهر للحظة، قد تدوم يومًا، لكنها لحظة في حياة النبتة.
هكذا هبّ أهل الضيعة فجر ذلك اليوم بعد ليلة ليلاء امتنع عنها ضوء القمر. غادر الرجال والنساء بيوتهم الطينية وكأنهم على اتفاق مضمر وصامت. يتحركون صامتين وما في محيّاهم لا يمتّ إلى الإصباح بصلة.. ربما بعض العيون المحمرّة بفعل الأرق. وكأنما خميرة وحشية وكاسرة تورّمت في دواخلهم أثناء الاستغراق بسبات الليل، وإن كان بعضهم لم يطبق جفنًا.

السأم من معايشة تحوّل ذلك الشعور الأوّلي بالفخر والاعتزاز إلى ضيق من الضيم الذي تواصل زمنًا ما عادوا يحتملونه. ذلك السأم هو الذي خرج بهم. هم الذين اعتادوا اجترار الحياة بهدوء وسكينة نبتة برّية لم تبصرها عين آدمية.. وبتكاسل جمّ.
مكثن النسوة في الأزقّة والزواريب، وشكّلن جماعات سوداء صغيرة لطّخت كالبقع، على الرغم من العتمة، خارطة الضيعة. بينما تحرّك الرجال وحدانًا ثم جماعات ليجتمعوا في الشارع الفوقاني في سيل صامت، مصمّم ومقهور من السأم متوجهًا إلى وادي الرهبان.
ذاهبون ليشهدوا، ممارسين ما يسمّيه فقهاء السخافة “الحسّ السليم”، الذي ما هو سوى “سلامة” التعبير عن جهل في مرتبة من مراتبه. لأن حركة العوام تكون، عمومًا، تعبيرًا عن تلك الجهالة.
صمد عبد الواحد واسطي العال، استشعر دنوّ المصيبة على الرغم من تجنّب أهل الضيعة محادثته بالأمر، وحاول مجادلتهم عندما أوحى الشيخ صرماوي في خطبة الجمعة الأخيرة بأن السيل يبلغ الزبى.. صرخ بهم :
– لو كنّا جميعًا “ولعات” لما تجاسر أحد علينا! لكننا مجموعة من الجبناء! وغادر المسجد مبيّنًا سخطه قبل أن يكمل الصرماوي التلاعب بعقول الناس. وتبعه حفنة من المصلّين. أخوته لم يفعلوا لغيابهم، فعبد الواحد هو الوحيد الذي داوم على الصوم والصلاة دون أن يجبر، حتى أبناءه، على تقليده. “الأمر بين الإنسان وربّه. ماذا يفيد أن يفعلوا خوفًا أو نفاقًا؟” كان يردّد.
رفض المشاركة في الجريمة، وأجمع أخوته على ذلك. وكان عبد القهّار، الوحيد بينهم الذي يتردّد على الولعة ليأخذ له بعض المؤون بين فينة وأخرى، قد لمّح له في حديثه عن التحوّلات الجارية في نفوس الغالبية، ويرجوه أن يأخذ حذره. حتى أنه نصحه بالانتقال إلى مخبأ آخر، أو الغياب فترة عن تلك الجبال ليبعد عن الضيعة وطأة الحيف الذي يوقعه العسكربأهلها. لكن “الولعة” ما كان يجيب، ويكتفي بالنظر إلى شيء موجود خلف الأشياء بعينين من زجاج.
في ذلك الصباح، أشرقت الشمس أشبه بالغاربة، فقد تبدّت مدمّاة، وكأنها تعلن ما سيكون.
عندما شعرت العائلة بحركة الناس جمدت نسوة آل واسطي العال برهة فأومأ عبد الواحد لهنّ بالحركة، وعندما لمح ابنه البكر يحاول التسلّل خارجًا وقد اشتدّ فضوله صرخ به:
-إلى أين!
تمتم الفتى بشيء غير مفهوم وتحرّك راجعًا بينما عنّفه والده :
– أفعد! اللّه لا يقيمك!

كان عبد الواحد واسطي العال يعلم باجتماع الشيخين الصرماوي والحنيفي مع القسّ يوحنّا ووجوه آل الجبراني في جامع الصالحية ليلة أمس، بعد صلاة العشاء. كان يعرف قرارهم غير المعلن، يستشفّه من تعليقاتهم وأحاديثهم. أحاديث رفض بإصرار المشاركة بها، كما رفض البقاء في المسجد على الرغم من إلحاح الشيخين. قال لهما وقد لحقا به إلى الباب وهو يهمّ بانتعال صندله:
– عبد الواحد واسطي العال لا يشارك في جريمة!
ثم أردف ملتفتًا بعد أن ابتعد عنهما خطوات:
– ولا في خيانة هذه الأرض!

هو ممّن لم يغمض لهم جفن. رأى عبد القهّار يخرج قبيل منتصف اللّيل مرتديًا أكثر ملابسه قتامة وحاملاً جعبة خرج بها من بيت المؤون، فاتجه إلى الباب ليشيّعه، وعندما رآه يحمل البارودة على كتفه استوقفه :
– لا. أترك البارودة هنا. أخبره فقط.
لأنه أدرك أنه ذاهب للقاء “الولعة”، فابتسم وشعر، على الرغم من الامتعاض الممعن، برضى عميق.. لأنه ينتمي إلى مجموعة ما زالت تدرك معنى الشرف.
انطلق عبد القهّار سريع الخطو.
لكنه كان قد تأخّر.
أخبر الجميع عندما عاد محبطًا ساعة السحر بأن العسكر العثمنلي منتشر في كافة أرجاء وادي الرهبان وأنه حاول التسلّل إلى سهل البسيط عبر وادي سكفتا لكنه اصطدم بهم في كلّ مكان. حتى أن أحدهم وجّه نحوه الموزر وهدّده. لحسن حظّه أن الأوامر كانت بتجنّب إحداث أية جلبة قبل بدء العملية. لكنه كان يجهل ذلك.
– دلّوهم دون شكّ إلى مخرج البسيط.. وكم طلبت منه تغيير المخبأ!
علّق عبد الواحد وهو يتوضّأ بقوله “لا حول ولا قوة إلاّ باللّه!” وأردف “ولعنة اللّه على من كان السبب!”.
دقائق معدودة كانت كافية ليتّفق الشيخان مع القسّ يوحنّا وآل الجبراني، ثم انتشر الخبر بين أهالي الضيعة بفعل التهامس. تهامس يكاد لا يُسمع، لكنه يصل.
مجموعات النسوة انتقلت من الأزقة والزواريب والساحات إلى سطوح البيوت مع أولى تباشير الفجر، كعلامات سوداء ترمق جهة الوادي. ينتظرن النهاية، ومع بصيص الضوء المتزايد وهبوب الريح الغربية بَدَوْن كأعلام حداد تستقبل اليوم الجديد.

سرعان ما بدأ هدير إطلاق النار. جاءت الدفعة الأولى خافتة، ودامت دقائق تكاد لا تنته. علّق عبد الجبّار:
– أكيد أنها من ناحية البسيط. الولعة ليس غشيمًا، لعلّه حاول التسلّل من هناك.
ثم ساد صمت عميق ومديد. كان نور برتقالي قد أخرج التيجان الصخرية للجبال الغربية من غياهب الظلمة، فبدأت حركة ما على سطوح البيوت. بات الجمع شبه قانع بمقتل الولعة.
لكن لعلعة الطلقات عاودت بعد دقائق وكانت هذه المرّة أكثر قوة وجلاء.
– الضرب في وادي الرهبان.
علّق عبد القهّار، بينما صمت جميع من في الدار الكبيرة. كانوا مجتمعين في الليوان العالي، حيث اعتادوا تناول الفطور، لكن أحدًا منهم لم يذق لقمة يومها. كان الجميع يتلقّون صدى الطلقات وكأنها تخز أجسادهم.
لم يطل الأمر. سيل النيران على كوة الكهف العلوية كانت بكثافة هائلة هشّمت أجزاء من إطارها وستبقى آثارها بيّنة.
قال شاهد عيان فيما بعد أنه رأى عن بعد كيف غاب شبح “الولعة” لوهلة في عتمة الكوة بعدما أُصيب، على الأغلب، وأدرك أنه مائت، فأطلّ ليشغل بجذعه كامل الإطار ويصرخ : ” يا أخوات الشرموطة!!”، فثقبته عشرات الرصاصات التي انهالت عليه.. لكنه ثبت لحظة، تابع الشاهد، وصمتت البنادق والعساكر لا يصدّقون كيف بمقدوره ألاّ ينهار. لكنه هوى وتدلّى نصف جسده ميتًا من كوّة الكهف.
بعد الرشقات الأخيرة التي دامت ثوان ووصل صداها بجلاء أكبر إلى الدار الكبيرة، فقال عبد الواحد واسطي العال بصوت مرتفع :
– رحمة الله عليك يا ولعة!.. يا بطل!
ثم نهض ونادي شقيقيه البالغين وطلب من الفتى عبد الوهاب أن يتوجّه إلى المقبرة وأن يأخذ معه المعاول اللازمة، ثم عرج إلى الحوش حيث أعدّوا البغلة البيضاء، (تلك التي سيقتلها الثوار بعد سنوات.. لكنها قصة أخرى)، ويمّموا باتجاه الوادي.

انتظر رجال القرية المتحلّقين خلف خطوط العثمنلي وألفوهم يجتمعون بعد صدور أوامر صارخة بذلك الشأن بينما قام آخرون بنقل أربعة قتلى وجريحين على عربة أعدّوها لذلك (سينقلون ثلاث جثث أخرى من سهل البسيط. “الولعة” كان يترك القليل من الجرحى)، ورأوا كيف تحرّك قائدهم على فرسه الأشهب معتمرًا طربوشه وقد شدّ جسده باعتزاز جمّ، وما زالت يمناه تمسك مسدّسه الكبير. بدا وكأنه حقّق انتصارًا طالما تمنّاه. لعلّه سعد لأن بمقدوره الآن أن يرى زوجه وأولاده في أضنة.
راح العسكر يصطفون، بينما هرع فريق منهم ودخلوا الكهف، ليس قبل أن يتسلى ثلاثة منهم من إطلاق رصاصات أخرى على الجثة المتدلّية فوقهم قليلاً، إلى أن صرخ العرّيف أن كفى. خرجت تلك المجموعة حاملة بعض المتاع وضعوها في عربة الجريحين.. كان أحدهما في حالة احتضار يعينه عسكري ما. بندقية “الولعة” وجدوها عند المدخل لأنه كان يلوّح بها عندما سبّهم وأخواتهم.
تحرّك رجال القرية خلف طابور العسكر، على مبعدة، صامتين.
التقى عبد الواحد وأخواه العسكر على الدرب، بعد تجاوزهم آخر بيوت الضيعة المحاذية للشارع الفوقاني، فأمر أخوته بالانحدار جانبًا وانتظار مرور العثمنلي. ما أن مرت عربة القتلى التي كانت في مؤخرة الطابور، ابتسم عبد الواحد وفكّر: “عرف كيف يموت”.
رجعوا إلى الدرب وتابعوا مسيرهم ليلتقوا بعد قليل جمع رجال الضيعة، يتقدّمهم المشايخ والقسّ والمختار ووجوه آل الجبراني، يليهم بقية أهل الضيعة.
قال عبد الصمد بعد سنوات طويلة في رسالة منه إلى محمد علاء الدين واسطي العال المهاجر في بوينس أيرس (وكان عبد الصمد آنذاك في سجن القلعة بدمشق بعد قتله حبيبة قلبه، وقبل أن يقتل بدوره بعد أسبوع، عندما قصف الفرنسيس السجن) أن شقيقه عبد الواحد اكتفى، عندما مرّ بذلك الموكب النجس ذو الوجوه الكالحة بأن بصق على الأرض جانبًا، باتجاههم.. وأن بقية الحشد لم تنظر إليهم وآثروا المضي مطأطئي الرؤوس.
وذكر محمّد علاء الدين، الذي رافق طفلاً عمّه الأصغر إلى المقبرة، أنهم أنزلوا الجثة الدامية عن البغلة واستعملوا سلّمًا خشبيًا كمحفّة وضعوها على مسطبة قائمة عند باب المقبرة، وللتعبير عن قصر سنّه اعتاد الترداد بأن وجهه بالكاد كان يتجاوز سوية جسد القتيل المسجّى.
قام عبد الواحد وأخوته بحفر القبر في زاوية من المقبرة ، بمحاذاة الجدار، لكنهم لم يحسنوا القياس، فالولعة كان مديد القامة، وعندما أنزلوه اللحد ووضعوه على جانبه الأيمن ليوجه القبلة كان رأسه يصطدم بجدار اللحد وبقي متلاصقًا مع كتفه الأيسر. كانت إحدى عينيه خارج محجرها.
قال عبد الواحد في طريق العودة إلى الدار الكبيرة:
– علينا بتدبير ديّات “بخعة”، لأننا، آل واسطي العال، نفي إن وعدنا.

غادر العسكر العثمنلي الضيعة في اليوم التالي، ليس قبل أن يتسلّطوا على أهل الضيعة مرة أخرى، فراحت عرباتهم ملأى بما تسنى لهم مصادرته، بما في ذلك عدد من رؤوس الغنم والماعز وبقرتين.
ثم عادت الحياة إلى بؤسها الساكن المعهود.

 

 

موسكو 1973 _ برج هلال (غرناطة) 5-8-2009

————–
تنويه: * الوطاءة: هي الفصل الرابع والأخير من رواية الولعة التي ننشر فصولها (الموطئالتَّوْطِئَةُالوطْأة – الوطاءة) على التوالي، أسبوعياً على دحنون
————-

الصورة: بتصرّف، عن لقطة بعدسة نوري الجرّاح

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.