الصفحة الرئيسية / نصوص / رأي / أوقفوا الطعن، غسان سلطانة لا يتألم الآن
غسان سلطانة
غسان سلطانة

أوقفوا الطعن، غسان سلطانة لا يتألم الآن

نسرين طرابلسي

 

يحز في نفسي كثيراً أن الأسئلة التي جهزتها يوما لأجري معه لقاءً صحفياً مازالت مخطوطة على ورقة ضاعت بعد أن بردت همتي.
يحز في نفسي أنني غضبت حين أراد أن يرى بعينه كيف سينعيه الناس. واعتبرت أن ماقام به مزحة سمجة، ولم أفهم كيف يكون شكل الأمنيات الأخيرة حين يعطيك الموت إشاراتٍ واضحة ويقلقك به قبل ساعة حضوره. لم أفهم أن الإنسان حين يموت لن يتسنى له أبداً رؤية مظاهر الحزن على فقدانه.

غسان سلطانة كان إنساناً حراً. بطريقة لن نفهمها نحن الذين لم يكن سهلاً علينا أبدا ترك كل شيء وراءنا. نحن الذين اعتبرنا أن مجرد إعلان تأييدنا للثورة موقف واضح، بينما كان غسان يتنقل بالمظاهرات من مكان لمكان، يرافق الثوار، واللاجئين، ويغيث النازحين، ويجمع التبرعات، وينشئ المشاريع الإنسانية بأقل قدر من الإمكانيات، ويكتب بوستات يومية، من المناطق المحررة من تحت القصف من برد المخيمات من المستشفيات الميدانية. ويتواصل مع الناس ويؤلف بين القلوب ويحارب الطائفية والتفرقة بكل ما أوتي من عفوية وصدق.

غسان سلطانة لم يتاجر بدينه. عرف أنه أفيد للثورة وهو مسيحي ومسلم معا، وعرف أن أفعاله هي التي ستخبر عن معدنه فلم يترك وسيلة إلا وقام بها.
الكل سيتذكر صورته التي زينت طابع الثورة حاملاً القرآن والانجيل ووردة حمراء، معلقاً على صدره صور الشهداء من الأطفال.
الكل سيتذكره على أنه الخال.. هكذا أحب أن يكون أخاً لأمهاتنا، محبوباً وقريباً ومن عظام الرقبة.

الكل سيتذكره شعبياً، يتحدث بلغة بسيطة عارية ممرغة بزفت الشوارع وهتافات المساكين ودماء الجرحى والرحمة على الشهداء.
الكل سيتذكر أنه ساهم بجمع ثمن الأضاحي وذبحها، افتداء للمواليد السوريين في عيد الأضحى، المهددين بالموت برداً، بجفاف الحليب في الأثداء الخائفة، بانخطاف الحياة بغمضة قلب وعمى السلاح.
الكل سيتذكره مسيحياً انضم للثورة وأخلص لها، فأصبح وحده أكثرية تتسلح بالأمل وتجمع حولها السوريين من كل الأديان والملل.
الكل سيتذكره صوتاً عالياً، فضيحةً للصامتين والخائفين والمتقاعسين والمترددين والأنانيين وأصحاب المصالح.

الكل سيتذكر وصيته التي طلب فيها أن يصلى عليه في جامع محرر وكنيسة محررة، ليكون حتى بعد موته رسالة محبة لإله واحد يتواجد في كل مكان للصلاة.

الكل سيتذكر أنه أوصى بتبرعه بكامل أعضائه السليمة، عندما لم يتبق لديه مال يتبرع به، ليعين سورياً مصاباً على إكمال الحياة بلا إعاقة.
لا أعرف كيف يمكن لمتحرر أن يناصر كل القرارات التي اتخذها غسان سلطانة، ولا يحترم حريته في أن يختار، في يومه الأخير، اعتناق دين أراد أن يموت عليه!!

إنه الشقي الذي نفذ من كل الحواجز، وعبر تحت كل أنواع القصف، ونجا من طيش القتال إلى أن قضى عليه السرطان اللئيم، ليموت على فراشه حزيناً مثل بطل خذله جسده ولم تخذله روحه.
ابردوا الكلمات المسنونة، انزعوا الأشواك من الشكوك والظنون والتحليلات البغيضة. فثمة رجل سوري عاش حراً، كما أملى عليه ضميره، واهباً ماتبقى له من طاقة وأنفاس لحلم حرية الوطن. ومات حراً ولم يرد سوى أن تكونوا حوله مجتمعين. لتقولوا الله..

لذا أوقفوا الطعن، غسان سلطانة لا يتألم الآن.

عن نسرين طرابلسي

نسرين طرابلسي
كاتبة وإعلامية سورية. صدر لها المجموعات القصصية: في انتظار أسطورة، وأدرك شهرزاد الملل، بروفة رقص أخيرة. وفي النثر: حديث الخرساء