ريما سويدان

إهداء

ريما سويدان

 

أيد ٍ تلوحُ من الفتحات الصغيرة كفرح الربيع، تملأُ أصوات أصحابها ساحات الفضاء “أم قصي، أم قصي.. هون، هون”. كان علينا أن نُعلق رؤوسنا إلى السماء لنستطيع رؤيتها. ننكزها لأم قصي “السلام موجه لكِ”.. ترد السلام وتبتسم بحزن “آه هدا ناصح الحايك.. لك مو هدا صوت جهاد غنام.. يا الله وهدا زهير سكرية”.
تستدير تلك الرؤوس المعلّقة آخذة معها الكتف المُستند عليها، جارّةًوراءها الجذع إلى أقصى ما تسمح به مرونة العضلات، متجهةً نزولاً لتغادر سجن صيدنايا.
– لماذا تعرفين كل هؤلاء المساجين؟
جزءٌ منهم كانوا أصدقائي قبل السجن برغم فارق العمر، والآخر منهم كانوا معي بالشبيبة عندما كنّا نسكن الميدان “أبو حبل”.

– ألن تعودي إلى البيت باكراً؟
لا أظن، علي الذهاب إلى بيت أبو فوزي الحجي من أجل ترتيب الزيارة الإسبوع القادم.
– مسافرة أنتِ؟
ألم تسمعي بوفاة ابن أم معاية!! علينا السفر الليلة إلى الدانة لحضور العزاء ومواساتها. المصيبة كيف سنخبر ذاك الأب المسجون بوفاة ابنه!! يا الله ماهذا القهر المضاعف.
– لماذا السفر إلى السلّمية؟
المونة هناك أرخص، أنت تعلمين علينا شراء الأكل لكافة المساجين المتشاركين مع والدك بالمهجع. أيضاً أريد أن أزور والدة عبد القادر اسطنبولي، هي مريضة ووحيدة.
– تاخرت تاخرت كثيراً، وأنا تقريباً لوحدي كل فترة بعد الظهر!!
إنظري ماذا يوجد بالكيس، طلبت منهم بالجمعية الإستهلاكية أن يُبقوا على السمك بالماء فقط كي أوصله لك حياً وترَينه يقفز. “أخيراً هناك وجه صغير يضحك”.
– ماذا الآن؟!
نظامٌ سافل. كنت بفرع الأمن لأحصل على إذن بالزيارة، قاموا مجدداً بتغيير لائحة المسموحات.سيأتي يوماً لن يسمحوا لنا بحمل أي شيء للزيارة.

“مرحبا أم قصي. أنا أم سامر جارتك بالبناية، رح نمرق أنا وغادة اليوم المسا لعندك شي ساعة انزورك. والله اشتقنالك وإلنا زمان ما شفناكِ”
– خزامى، كم تعتقدين من الوقت سيمر قبل أن تبدأ والدتك بالكبوّ على الأريكة؟
– لئيمة أنتِ. هي فعلاً مشتاقة لهم وتريد أن تقضي السهرة معهم. إنظري فقد جهزت القهوة والحلو.
– لن تتحمل أكثر من عشرين دقيقة، منهكة هي وليس لديها مساحات لسماع تفاصيل الحياة اليومية المعتادة … راهنيني.
– إخرسي.
– هاهاهاهاها … ألم أقل لكِ، ليس أكثر من عشرين دقيقة.

أتت الثورة على غفلة من العمر ففاجأتنا، فاجأت ذواتنا وذواكرنا. زمن طويل مضى وأنا أحفر قبر سنين زيارات السجن وما تجذر منها وتسرب. بالعمق حفرت، بعمق الضياع والتيه حفرت .. ومن ثم غادرت. نحن عوائل السجناء السياسيين الذين تعودنا على الانتقال بين عالم الأشباح والأحياء كمن يقفز على الحبل، قفزة هنا وقفزة هناك …لم يُترك لنا رفاهية كلمة طبيعي. بقوة حضورها مدت هذه الثورة يدها واشتلعت تلك السنين لتضعها أمامي بتحدٍ، أن ما حاولت الهروب منه كان قد عُجن مع نخاعي الشوكي وشَكلني.
عندما وصلتني مادة “زهير سكرية” ذاك الرسام الذي لم ينهِ سنين دراسته، المعتقل السياسي الذي فقد عقله من كثرة التعذيب، وانتحر عند أول فرصة بعد خروجه من السجن … انتَحَبت. بكيت المعتقلين، بكيت الموتى، بكيت الأمهات المقهورات، بكيت ذواكرنا، بكيت ذاتي، بكيت الوطن … وبكيت إنسانيتنا.
أقسمت أنني إن إستطعت أن أخرج الموتى من قبورهم ليتحدثوا عن تجاربهم بالسجن فسأفعل. لا أريد أن أنفض الغبار عن ذاكرة الوطن المنسيّة، أريد أن أرشُقها بالماء البارد لترتجف من رعب ما حَوت.

أخطو منتصفَ العمر بسنواتي الأربعين، من غير أن تًمنحُني هذه الحياة طفلاً/ة ليعبر بي بيديه الغضّتين الطريّتين إلى الضفة الأخرى من الأمومة. على مسافةٍ ثابتةٍوقفتُ هذا العُمر منكِ، أحاكمك، أجلدك وذاتي أيضاً مع كل رفةِ جفنٍ … بكل قسوة أردتك أُماً حصرية.

” أمضيت حتى الآن ثلاثة ألاف وثلاثماية وحوالي الخمسين أو الخامسة والسبعين يوماً .. وعندما يمر هذا العدد أمامي أصاب بالذهول، بل بالجنون .. إنني لم أنس في هذه الزيارات وضع أم قصي التي أعتبرها فوق المؤثرات .. يجب أن أتكلم معها عن علاقتنا، عن كفاحها، عن الأيام الغالية. عما تعانيه من حرمان في هذه الأيام. لقد كافحت في غيابي كفاح الأبطال، منظرة يوماً وراء يوم، وشهراً بعد شهر أن يفرج عن الفتى الفقير الذي أحبته منذ 1959 ولازالت تخلص له في زمن قلّ فيه الإخلاص.
لازلت مضطرباً من أثر الزيارة. لازلت أرى –أينما التفت- وجه الحبيبة الغالية أم قصي وهي تطلب مني أن أنتبه إليها، أن أقلل من الوصايا التي تهم الآخرين، أن أعاين ما ترتدي وما تلبس. إنني بالواقع أنظر عبر المنخل الحديدي إلى رجليها، وكيف تضعهما في الحذاء، وأنظر في ثوبها، ولكني أتحدث عن الآخرين. إن رفيقة العمر ليست عاطفية، بل تحب بصدق وإخلاص وأنا لا أزال أعاني عقدة قديمة، هي أولوية العمل الوطني. لن أنسى التفجر العاطفي الجميل والمعبر الذي ظهر على وجه أم قصي.”
مذكرات أبو قصي
سجن صيدنايا 28 حزيران 1991

 

أجلس بسنيني الأربعة متربعةً الحياة، وباسترخاءٍ طفولي غير آبهةَ ببحثك عن طريقة لحملي. بكل العناد الذي أَورثتني إياه كان من المستحيل أن تستغني عن سيجارتك.

….. في زمنٍ مضى كنّا أسرة بمشاعر طبيعية.

عن ريما سويدان

ريما سويدان
صبية سورية مغادرة الوطن من أكثر من عشر سنوات

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.