الأطفال السوريين المهجرين.. المجبرون على العمل
الأطفال السوريين المهجرين.. المجبرون على العمل

يا إلهي كلهم سوريون!

نجاة عبد الصمد
خاص بدحنون

 

أقول سأغادر، سأروح إلى أرضٍ بلا حروب، ولا تعشّش بين أعشابها زيزانُ الألم…
هذا البويجي على الرصيف يدندن بلهجة حوران ولحن حوران:
(خلّي يا خلّي سبّاطك غالي… بضربة فرشاية بيرجع وكالة…)
وصبيان المقاهي يموجون بين الطاولات، تثقل أياديهم بصواني القهوة والشاي. الشاي ينفث بخاره اللذيذ. يدفأ المكان به وبالبريق الحزين في عيونهم… ترى هل يجد هؤلاء الصبية وقتاً لأنفسهم، لشرب الشاي الساخن مثلاً؟!
وصبيّ الأركيلة الضئيل القدّ يتعثر في خطوه، ينوء بخوفه من أن يرمي بجمر قلبه بدلاً من جمرات الفحم على رؤوس هذه الأراكيل الساهية…
وأجير الدكان يتوه بين دلال الزبائن ال (هاي كلاس) وبين غضب مالك السوبر ماركت، وبين رجاء هؤلاء المقرفصين بجانب المحلّ منذ الفجر يحجزون لأنفسهم بقايا خضرةٍ ذابلة لن يشتريها جماعة الهاي كلاس…
بائع الترمس والفول يجرّ عربته بدولابها المخلخل، فترتجّ فوقها صحون الليمون وشرائح الجزر البديعة التقطيع…
تفترش الرصيف هذه الريفيّة الشامية التي قرّرت أخيراً أن تحترف التبصير…ما تزال تتدرب كيف تبيع النساء العاثرات وعوداً باهظة، تلوك لهنّ كلاماً محفوظاً لا يربط ولا يحل ولا يدكّ رشقة أملٍ ولا يستشرف الآتي……
أرتال الأطفال الحفاة يموجون على الأرصفة وبين السيارات وعلى أبواب الدكاكين…يكنسون الغبار عن الطرقات بجلود أقدامهم، وبأياديهم الممدودة للعابرين… بينما تلوذ أمهاتهن في الزوايا الظليلة، يرقبنهن ويأملن أن يجزل العابرون لهم العطاء…
يا إلهي كلهم سوريون! وجوههم، شقاؤهم، غضبهم، يأسهم، اجتهادهم، صبرهم، أمانيهم… هي النكهة السورية الدامغة تطلع هنا من شقوق الأرض ومن منافذ الفضاء…
تختلط في ذهني ملامح المكان فلا أعود أعرف هل أنا في بيتي، أم في طريقٍ أليفٍ يحملني كل يومٍ من بيتي إلى عملي؟ أم أنا في ريف السويداء الفقير والمذعور أم في ريف الشام أم في درعا أم في حمص أم حلب أم دير الزور؟! يتبعني المكان كجروٍ أليفٍ ووفيّ وصامت. أتابع السير لعل صورته تنجلي… يطلّ هذا البحر… من شطه السعيد يناديني المصوّر المحترف والكاميرا على كتفه… يبيعني لقطةً سياحيةً من كاميرا قديمة وعريقة… (تفضلي يا مدام… سأمنحك صورة للذكرى… ولو لم تعجبكِ؛ مزّقيها…) تنطلي على حلاوة صوته، ووعده المعسول بفرح نادرٍ وغامض… أهرع لرؤيتها، فتحدّق فيّ باندهاش أيّ غريبٍ تائهٍ في شتاءٍ قليل الخير…ليس في الصورة سوى الرعب الذي ظننتني رميته خلف ظهري فوق موج هذا البحر… نعم هذي أنا، وهذه الروشة خلفي، وهذه بيروت أمامي، بيروت التي تتقاسم أرضُها اليوم مع الشتات السوريّ مئات الألوف من الأرواح السورية المعطوبة…

 

الصورة: © UNHCR/S.Baldwin

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.