الصفحة الرئيسية / زوايا / بالزاوية - فادي عزام / إن كنت سورياً هذه الأيام…
مقطع من تشكيل لأيمن الحلبي
مقطع من تشكيل لأيمن الحلبي

إن كنت سورياً هذه الأيام…

فادي عزام

 

إن كنتَ سورياً هذه الأيام…

فأنتَ تحملُ الغطاء والكشفَ، اليقظة والمنام، الحلمَ والكابوس في زفرةٍ واحدة. تتجلّدُ بالهجير، وتذوب من برودةِ العالم.

إن كنتَ سورياً هذه الأيام.
ستكون رمزاً للخيمة والخيبة والخوف والخيانة والخرير…
خرير الجرحِ حين يتدفَّقُ من جسدِك العاصي وعينيكَ الفرات.

إن كنتَ سورياً هذه الأيام.
عليك أن تعود لتجلس في مدارس اللياقة، فالكلُّ يريد إعادةَ تأهيلِك، نُصحَك وإرشادَك، قولَك وقتلَك. معرفةَ صنفِك وتصنيفك، رصَّك وتشتيتِك، شدَّك والتشديدَ عليك
يلقنونَك الدروسَ كيف يصنعُ الله الجنان والأشياء من حكمةِ الأشلاء؟
كيف تطلبُ الضحيةُ الصفحَ من الجلاد؟
كيف يُحرقُ بالبلد باسم الولد؟
كيف تُباس اليدُ التي تقتل، والطلقةُ التي تصرع، والقذيفةُ التي تفتك
كيف تُتَّهمُ الأزهارُ بجريرة الخيانة
وكيف تجلدك عصى الفصاحةِ الثمانين وتزيدُ كي تنطقَ الشهادتين وتموتَ مرّتين ولا تُبعثَ أبداً.

إن كنتَ سورياً هذه الأيام.
سيأتي إليكَ المشفقون ليحظوا بصورة للذاكرة المعطوبة معك، ويحتمي منك أخوتُكَ في الخليج بالمزيدِ من النشيج. ويُشرق دمعُ الغريبِ على طفلكَ الذبيح ويرسلُك بقورابَ عاريةٍ إلى مياهٍ يشتهيكَ قاعُها ويمجدُكَ الغرقُ، ويتقيأ العالم عليكَ بالمزيدِ من الخيام كي تنام… فقط تنام.
وحدَها السماء تمنحك فيزا مجانية كل لحظة، من دون حتى النظر إلى أوراقك الثبوتية
يكفي أن تهمّ بالحديث حتى تعُّرف بأنك سوريٌ من هناك، من الجحيم نفسِهِ وخصالِهِ الحميدة.

إن كنت سوريا هذه الأيام ويسألُك أحدُهم من أيِّ البلادِ أنت؟ فقل:

إنني من هناكَ… حظي العاثرُ والخارقُ معا جعلني أتلبَّسُ البلادَ حينَ لا مكان
أتشبث بالمكان حين تغدرني البلاد.
إنني من حيثُ سوريا نهايةٌ تليقُ بالتاريخ، وبدايةٌ تستحقُّ أن تُعاش.
من وفرة الألم، من الدّم حين ينجو من الدّبق، من العنجهيّة التي لا تُعرف حتى الآن أسبابُها.
من هناك حيث ستجدُ المرايا والضحايا والسّبايا والهدايا تحت جسر “السيد” الرئيس.
من بلدٍ يتجدّدُ به الخروجُ إلى التيه وعبورُ موسى وصلبُ المسيحِ وأوجاع محمد ومحنةُ الحلاج، وقتلُ السهروردي، ونطعُ يوحنا، وحبَلُ مريم، وانتقامُ يوشعَ بن نون وأسرُ زنوبيا وكشفُ ثديي زينب وتدحرُجُ رأسِ الحسين في دراما معاصرة لم تعد تحتاجُ التاريخ.

أن تكون سورياً هذه الأيام.
عليكَ أن تعلنَ شهادةَ وفاةِ العالم، ويعلنَ العالمُ شهادةَ شُبهتِك.
فاجهر بها لتدانَ إدانةً كاملة
أنتَ المصيبةُ التي لم يَعرفْ لها الكونُ شبيهاً
أنت الضيقُ وإن اتسعْتَ
أنت المدانُ والدائنُ، أنت الدنُّ والدَّيدَن، أنت الدينُ والدنيا، أنت الدائرُ والمُندار..
وأنت اللا أحد…
أنتَ الفضيحةُ النافرةُ في وجه هذا العصر.

أن تكون سورياً هذه الأيام. ثمّةَ فخرٌ غريب يعتريكَ، لن يُدركَه الجاني والمجنيّ والمتفرج والمهرّج وكلّ من لم يتلوث بسوريا.

أن تكون سوريّا هذه الأيام
فالأشياء والمواقف والاتجاهات في مداها الأقصى
فإذا أحببت تُقتل، وإذا كرهت لا تَقبل بأقل من الأشلاء
إن سكتّ تُقتل وإن تكلمتَ تَقتل
تضع الضمة أو الفتحةَ على التاء وتتسلى بتبدل مواضعها بين التائين وتتوه.

وإذا أدمنْت سوريا لن يُشفيك الهروبُ منها، ولا البقاءُ فيها. إنّها ملحمةُ المكان ولُحمة الآنين مع الندمِ ولذّةِ الاستراق لحفيفِ الحقائق العارية أوالانصعاقِ بكهربائِها السّاكنة.
إنّها الروايةُ التي لم يتجرأ على كتابتها “دي ساد”
ولا على كثافتها فحلُ الشِّعر العنيف
إنها النصُّ الموشومُ على قفا اللّوحِ المحفوظ، لا تُقرأُ إلا عقباً على رأس.

أن تكون سوريا يعني أن تصارع ممالك النحو على المضاف إليه
سوريا الأسد أو سوريا الله. لا أحد يقبلها سوريا حاف.
تحتاج أن تكسر الصافي من كحولها
لتحفظ مذاقَ السُكر الخفيف في مقام الخمر الشفيف
لتسترق المعنى من خزانة النثر
لتمارس جحودَ الوزنِ في حضرة القافية

تتهجاها سوريا وتدخلها سور .. وتنادي لمن لا حياة فيه … يا …يا…يا.
يا سور، يا سوري يا سوريا
فتجيبُكَ زخّاتُ الرصاص.

أن تكون سوريّا هذه الأيام، شئت أم أبيت فأنت أكثر البشر معرفة بحقيقةِ الموت وأكثرهم جهلاً بأسرارِ الحياة.

أن تكون سورياً هذه الأيام.
يعني أن تكونَ الشيء ونقيضَه
فكلما أصبحت شيئاً دمَّركَ ضدُّكَ الذي فيك.

أن تكون سوريا هذه الأيام يعني أن تكون فلسطينيا على مدى الدهر.
ومصريا حتى الفرعون الأخير وتونسيا تجر عربة البوعزيزي في درب ابن مريم وتشتعل كل يوم، ويمنيّا ينبض قلبك مرة لصنعاء وأخرى لعدن، وليبيّا تحفظ وصايا عمر المختار، ومكيّا تحمل روح أبا ذر الغفاري ومعك عصاهُ ولعنتُه، بأنه عاش وحيداً ومات وحيداً وسيبعث وحيداً.

أن تكون سوريّا
يعني أن تكون ذلك القفلُ الذي أضاعَ مفتاحَهُ وغادرَهُ الباب وفرَّ منهُ البيتُ وتعاقبُ لأنك موصود!

لن تنجو مهما حاولتَ لن تنجو
فكيفما هربت، كيفما أنكرت أو أفصحتَ، كيفما اعتقدت أنك نجوت فإنها تتسلَّلُ إليكَ، لتنقض عليك في غفلة منك
تعتقلك بتهمتك الأبهى”سوري” مهما ابتعدت
تأتيك سوريا، تدهشك بوقوفها ضدَّ أيِّ شيءٍ ومع أي شيء
يدهشك كيفَ نظامُها متشبثٌ وثورتُها باقية
كيف حاميها حراميها وكيف محرِّرُها مُستعبَدٌ فيها؟

حبرٌ كثير مهروقٌ على أبوابها
بحرٌ جديدٌ يولدُ من مِلحِها المهدورِ، من طُهرِ جرحها الفجِّ، من حريرِ ريقِها الموَّارِ بالأبجديات
من حفيف مشمشها الغاوي وهمس طلعها العالي، من مباغتة فيوض النسرين حين تحل المجزرة بمشتقات الورود، من سقسقة القبلات السرية تحت شرفات بيوتها الشحيحة
من أسماء أنهارها الحسنى
من فصاحة نداءاتها السريّة والصريحة
من بحيراتها العشر، وتلال فتنتها الألف.
من خصيبها وكثيبها
من ترانيمها حين يعانق حداء الكنائس تكبير المساجد وينخرطان في نوبة نحيبٍ مجيد.
من وهجِ نارِها من دمارِها من آسِ أسرارها من عارها وفخارها، من أضرحة الأئمة ومقامات القديسين، من أولياء صبرها من سمرمر طيرها، من جرادها الأكول من نعيمها المغموس
ب”القمرالدين”
من مرمر أرواح أطفالها، من طواف البهجة في سدرة منتهاها، من حمأةٍ لا تكادُ تجفُّ حتى تتبلَّل دماً لم يتوقفْ عن تزكيةِ الوجودِ بروحِ الخلودِ
من فضيحة الدهر، من تجلي القهر، من لوثة عشقٍ تتفشى على شكل قسوة بأهبّة اللَّحمِ الذي يفلُّ الساطور، ومطرٍ حامضٍ يتقطَّرُ بلونِ البرقوق.

يا جليلة المقام وأنت تفكفكين طلاسمَ الريحِ بضحكات نسائِكِ الطيبات.
وأنت تُبطلين عملَ غيمةٍ مفخَّخَةٍ بالعطرِ وتنثرينها على شكلِ شآميةٍ عابرةٍ على حواف الضوءِ أو حلبيةٍ قادمةٍ من آخر النهارِ أو حمصيةٍ زاخرةٍ بكل أنواعِ الجِناسِ تنحي أمام قدميها اللغات
أو ديريةٍ تحجل على جسور العبور إلى أعلى هاماتِ النخلاتِ المُغرمةِ بالندى.
أو كردية يفيض قلبها بأغاني كاوا الحداد.
أو حموية تسيّر النواعير على نبض أشواقها، أوحورانية تعدد أسماء الشهداء ببيت عتابا، وتخبز للعالم معجزة الصبر أو ساحلية خرجت للتو رقراقة من موج أرواد، أو بدوية نسيت وشوم وجهها دقة دقة، على كتف فارس من الرقة. أوجولانية تستغني بمن جاؤوا عمن راحوا وتركوا أحلامهم على مناشر الغسيل، أو جببلية محبوسة بين أنين العنب وفواح التفاح.
أنا من بلدِ المليون حكايةٍ والمقال ِالواحد،
أنا من بلد تتحول جراحه إلى ضحكات، وكناياته واستعاراته وبلاغته إلى شعرٍ رديء.
أنا من بلدِ القسوة الكاملة، والحبِّ المنتهي الصلاحية، والطيبةِ الزاخرة بكل أنواع الموت الزاجل.
أنا من سوريا يا أخوتي، إيّاكم أن تشفقوا عليها ففيها من الحياةِ ما يكفي لإعادةِ إعمار العالم، ومن المقابرِ ما يسعكم جميعا.
أنا من البلدِ المعشوقةِ حتى أواخرِ الندم، المهجورةِ لآخر أعقابِ الشجى
من يخاصرُها سيطلعُ على زنديهِ العشبُ!
من يراقصُها سيخاصمُهُ الثباتُ!
من يضمُّها فليتجنب الريحَ لأنه سيغدو خفيفا تطيّره الزفرات!
من يقبّلها ستدبُّ المحنةُ به، يحطِبُ غابةَ أيامِهِ ولا تكفُّ إبر أكوازُ الصنوبرِ عن تسيّج أحلامه. ومن يرافقُها عليه التخفُّفُ من الطريدةِ والضحيَّة
عليه التدرب على كلِّ مشتقاتِ الموتِ وكلِّ اشتقاقاتِ الحياة وكلِّ انشقاقات ما ثبت
فلا أحد يعرف معها هذه المهولةُ المتكبّرةُ الجسورةُ المعشوقةُ التي تسمَّى سوريا
بأيِّ لحظةٍ تكونُ البدايةُ أو كيف تحضرُ دفعةً واحدةً كلُّ النهايات.
يا بلدي يا سوريا
يا بلدي يا أنتِ
أراكِ تُبطلينَ مفعول الذاكرة، وتعدّين لي وجبةً من ديناميت الغواية.
أراك تنسَيْنَ الغناء وتكتبين الكثير من نوطاتِ الشجر.
أراك تُمنعين نداءاتِ السحيقِ من الغابرِ وتشيحين الوجهَ عن العابرِ، وتجلخين الرائحة -التي التي غنمْتِها من بقايا الغزاة- على برداخ قلوب عشاقك وتحفظين لكارهيك سمومَهُم كاملة.
أراك وطناً تأويه الشواردُ والشواهقُ من الطيور المنتوفةِ الرّيشِ وآهاتٌ ساهماتٌ من النوعِ الرقراقِ تتطاير حولك، وعوالمُ متوحِّشة لم تستأنس بعدُ بكاميراتِ الأفلامِ الوثائقية، وبحارةٌ من سفينةِ المرارة، بملحِهم الشهي، غنّوا يوماً حماةَ الديار عليكم سلام، ويهزجون اليوم
جنّة جنّة جنّة…

أراك تركلين المشغولين بتخصيبِ الفكرة بقصائدِ الأنابيب
أرى بما يرى المستندُ بلحيتِهِ الكثَّةِ على عانتِكِ جموعاً تتدافش صوبَ الهاوية بين منحنى إبطك ومنزلَقِ قوسِ نهدِك، على حواشي فطنتِكِ الباذخة، بالقرب من مصبِّ مياهِكِ الوفير
ومنحنى النظرةِ الكسيرةِ التي تحفرُ بجسدِ الفكرةِ مجاري دمعِكِ الغزير…
يا خصيبةُ يا مهيبةُ يا عجيبة يا بلدي.

هزيني ودعيني استفيق فلقد نوّمني الدم
وأعيدينا إليك سوريين أقلّ وبشراً أكثر
سيرحل المجرمون جميعا،
سيرحل الضاحك والمضحوكُ عليه،
سيرحل مُفشي الألم، صانعُ العدم، مروِّجُ التُهم وموزِّعُ حصَّصِ الدم على البلاد.
وستقومين يا سوريا كأصبعٍ وسطى في وجه العالم
تقولين كلمةً لمن موّتك وأماتك وأكل البقلاوة على أُجاجِ دمِكِ:
أنا البلدُ الذي لا يموت.. أنا البلدُ الذي يصعدُ شبابُه إلى سمائه راقصين
أنا البلدُ الذي لا يليقُ به الحدادُ
أنا فقط أفصّل بصبر الأمهات، كفنَ كلِّ جلاد.

 

 

 ……………
هذا النص ينشر بالتزامن على دحنون والقدس العربي.
الصورة: مقطع من تشكيل لأيمن الحلبي

عن فادي عزام

فادي عزام
كاتب سوري، صدر له "تحتانيات" نصوص. "سرمدة" رواية ترجمت الى الإنكليزية والألمانية والإيطالية

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.