نذير نبعة
نذير نبعة

اللقاء

محمد حجو

 

 

أحلم بها كلَّ يوم، تتراءى لي في ريعان شبابها، أحلم بها و قد ملأ الحسن ثناياها فغدت أجمل ما رأيت، تخلع على نفسها في كل حلم لباسا جديدا متكلمة بلسان مختلف عن سابقه، ورغم تبدل قشورها إلا أن الألفة لم تغادرها، فمذ غزت أحلامي و أنا أشعر بها جزءاً من روحي.  تفسير هذا الحلم القهري أصبح يسكنني، من تكون يا ترى؟

ازدادت حالتي سوءاً بعد عدة أشهر فقد استوطنت يقظتي بعد أن ملَّت نومي،أصبحت أراها في قعر كوب الشاي، على شاشة الحاسوب، ….الخ، لذا قررت و بعد ترددٍ كبير استشارة طبيب نفسي، علَّه يجد لفتاتي تفسيراً.

(أغلب الظنِّ أنك مسكون بهاجسٍ قد تمَّ كبته و هو يحاول الآن الخروج من لاوعيك إلى وعيك).

خرجت كلماته بسيطة، حاسمة، و غير قابلة للتفنيد، و ذلك بعد سردي المتلعثم لحلمي…

بادرته بالسؤال قائلاً: (لماذا يتمثَّل الهاجس بامرأة؟)، قاطعني بكلماتٍ سدَّدَها كلاعبٍ محترفٍ خَبِرَ إحراز الأهداف مجيباً بها عن سؤالي قبل أن أنتهي منه: (لليلفت انتباهك.  إنَّ الكبْتَ المزمن غالباً ما يتمثَّل بأشياء أو أشخاص تغري الإنسان المكبوت، و ليس أشدَّ إغراءً للرجل من المرأة)، سكت بعدها قليلا ليردف: (أظنك لن تعرف السلام الداخلي حتى تعي ماهية هاجسك المكبوت و تطلق عنانه). (و كيف السبيل إلى ذلك؟؟) خرجت هذه الكلمات من فيهي (فمي) ملحونةً بموسيقا البلاهة، الأمر الذي دفع الطبيب إلى الابتسام قائلاً: (هذا عملي).

بدأ بسؤالٍ عام: (حدِّثني عن روتينك اليومي بالتفصيل)، و بعد أن انتهيت سألني مستغرباً: (ألا تشاهد الأخبار؟!)، (أبداً) خرجت الكلمة من شفتيَّ مشبَّعةً بالاشمئزاز، (لم أعد أحتمل المجاعات والحروب وأكاذيب السياسة فتوقفت عن متابعتها) أردفت قائلاً، بدا عليه الاهتمام ثم قال: (انتهت جلستنا اليوم، سنكمل الأسبوع القادم، وخلال ذلك عليك بتجديد علاقتك مع الأخبار…. يومياً).

أدرت التلفاز على إحدى المحطات الإخبارية؟ فطالعني رمزها الأصفر المزخرف لتظهر بعدها كلمتان كرهتهما طويلاً: (نشرة الأخبار).

بينما تابعت بفتورٍ ما تجنبته لسنوات، حدث أمرٌ مذهل.. أمرٌ لم أكن أراه إلا في الأحلام.. لقد رأيتها هناك على الشاشة، مطاردتي.. هاجسي.. فتاة أحلامي.  أيعقل أن أعثر عليها في أبغض الأماكن إلى قلبي. بعد هنيهةٍ أدركت ألا وقت أضيعه على الدهشة، تأكدت من مكان فارستي لأصعد بعدها إلى سيارتي منطلقاً بسرعةٍ جنونية.

وصلت بعد سجالٍ طويل مع السير المزدحم، قفزت من السيارة… ها هي هناك.. مرتسمةً على وجوه الناس الغاضبة الفرحة، خارجةً من أفواههم كأوبرا إيطالية شهيرة، انخرطت معهم أهتف: (حرية، حرية، حرية)، خرجت من حلقي مجلجلة ومحررة معها غضبي الذي طال كبته، ولكن هيهات لفرحة اللقاء أن تكتمل، فما كدت أصرخ بالحرية دقائق معدودة حتى رأيت الناس يتفرقون من حولي استجابةً لوصول أعداء الحرية ليخرسوا أبواق الحق، أتوا بعد أن أفزعت قاداتِهم كلماتُ الحرية…

مستلقياً إثر ضربة هراوة، وبعيونٍ مملوءةٍ دماً، شاهدت أحد الأبواق يطأ بقدمه على وجهي وهو يقول: (هذه من أجل الحرية)، ثمَّ لقنني كلمات الرضوخ للمستبد لأرددها فأومأت بالإيجاب، ابتعد قليلاً ليستمتع ورفاقه بذلي فرددت: (لا إله إلا الله، حرية وبس)، انطلقت الرصاصات بعدها محولة جسدي إلى مصفاةٍ كثيرة الثقوب كبيرتها فسقطت والابتسامة تزيِّن فمي الدامي، لا كبت بعد هذا اللقاء والإشفاق كل الإشفاق على من لم يلتقِ بعدُ بالحرية.

الصورة: تشكيل لنذير نبعة

عن محمد حجو

محمد حجو
كاتب سوري ولد و تربى في حلب. يكتب القصة القصيرة والمقالات السياسية والاجتماعية. حازت قصته ((البنيان المرصوص)) على المركز الثالث في مسابقة قصص على الهواء، نيسان 2014.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.