الصفحة الرئيسية / تجريب / الآن أيها السوري – ١
حواجز دمشق، خط عسكري
حواجز دمشق، خط عسكري

الآن أيها السوري – ١

ع. س.

 

1
الآن أيها السوري: يحدث أن تطلّ برأسك الضرير، تتحسّس الرياح الضريرة مثلك، الرياح الهائلة خارج وكرك/ ملاذك. وكرك هو بيتك، وبالكثير حارتك. حارتك المسيجة بالسلاح. أنت الذي لم يعد لك أمان خارجها، يحدث أن تضطر للسفر إلى العاصمة…

2
مواطن غلبان: سأروح معك في سيارتك يا أخي. أخاف كثيراً أن أسافر إلى الشام في باص غريب. لن أسافر إليها إلا حين تجرّني أشغالي الظالمة. هل ما زالت قريبة هذه ال(شام)؟!
ـ منتفق على سعر التوصيلة بالأول.. والطريق إما طويل أو قصير… حسب الحواجز… وبهالطريق منتسلّى، منتعرف على أحوال البلد…
ما أكثر حنان صوته ـ هذا السائق النشميّ ـ وهدوءه وحياده وحكمته! الحكمة التي تعقب أعوام الكدّ العسير، وطول الصبر على اللقمة المغموسة بالرعب، قبل أن ينضج ويتعلم من أين تؤكل الكتف…
ـ أبشّرك، سنسافر اليوم على الخط العسكري. أخيراً أنا حرّ. سأذبح بأظفري كلّ من نكّدوا عليّ عيشي، وأهانوني من قبل على هذا الطريق. هذا الطريق بيتي منذ عشرين سنة. وحرمت منه منذ سنتين حين صرتُ مطلوباً للاحتياط. سنتان وأنا أتخفّى كالجرذ عن عيونهم. لا أريد أن أموت بعيداً وغريباً. أنهيتُ دورة تدريب الفرقة الحزبية على السلاح في معسكر سد العيّن. معي الآن بطاقة (لجان شعبية)، كرت أخضر يعني. تخلّصتُ أخيراً من الأوغاد بالاحتيال على خدمة العلم بالخدمة في اللجان الشعبية. كيف لم تخطر ببالي من قبل؟ لأنني غبيّ! لم تكلفني سوى دورةٍ للتدرّب على السلاح الفرديّ لستة أيام. كنا أكثر من مائة شابٍ في الدورة. قال لنا أمين الفرع في خطبة التخرج: أنتم درع الوطن أنتم روحه. أنتم عزتنا وحماة ديارنا إلى أن ندحر فلول المؤامرة..

3
على الطريق إلى الدولة الشقيقة (دمشق) تيبّستْ نوارات أيار قبل أوانها… وخواء. ليس سوى الخواء يملأ الطريق، وأيضاً الحواجز. من راديو الباص الصغير لقاءات مع صبايا من الأرياف يفخرن بالانتساب إلى جيش الدفاع الشعبي، ويشجعن المترددات على المبادرة…

4
يعبر رتل سياراتٍ فخم، ترافقه أغاني النصر الطازج. فوق الرتل صور القائد الخارق. تطلّ رؤوس الشباب والصبايا من فتحات السقوف، يهتفون ويلوحون بأياديهم المعصوبة بالعلم السوري. يروي السائق (الراوي العليم)، بعد أن يخفض صوت الراديو: هذا موكب الزعيم (ن). وهؤلاء مرافقته. فضل المعلم (ن) على رأسي. هو الذي أنقذ سيارتي، وفّر عليّ 300 ألف ليرة.. وراعاني كمان ب 5000 فوق هالشي. ظلّت سيارتي مرمية قدام البيت بموتورها الخربان قبل أن أهتدي إلى المعلم (ن). كان (ن) يملك مكتب استقدام للعاملات الأجنبيات. وانتكس حاله بعد هجرة الأكابر من البلد، فانقطع رزقه، واضطرّ غصباً عنه ـ حين اشتدّت الأزمة ـ للاحتماء بالفرقة الرابعة. منحوه بركتهم، ففتح الله أبواب الرزق في وجهه، وصار لديه رجاله وسلاحه. مخزنه يطفح بملايين الليرات من غنائم الحرب. رحت إليه أطلب موتوراً لسيارتي القديمة. سعر الموتور المستعمل في السوق: 400 ألف ليرة، فباعني موتور (وكالة) ب100 ألف ليرة. المخزن مفتوحٌ ليلا نهاراً بحراسة رجال المعلم، ولا يغلق أبوابه في وجه أحد. اليوم لا أحد يطال (ن). صار وحده دولة!
ـ وهل طاوعك قلبك أن تشتري منه يا أخي؟
ـ نعم طاوعني

5
يتأفّف الدكتور أنطون حين يتوقف الباص لدقيقة قصيرة على الخط العسكري. ويعود ليداعب شعر ابنه. ابنه الوديع يرخي رأسه على كتف أبيه ويغفو. تلمع مقدمة رأسه الحليقة على الزيرو، ومن نصف رأسه الخلفيّ تنسدل جديلته حتى خصره النحيل.. جديلة عمرها من عمره: 12 سنة!
ـ ما أجمل شعرك يا جويل! ـ يقول أحد الركاب. يفتح جويل عينيه ويبتسم بحياء.
ـ بعرف. أنا أصلاً مثل الممثل السينمائي الأمريكي: ستيفن سيغال.
جويل يسبح كالدلفين ـ يقول الدكتور أنطون ـ لكنّ الإرهابيين شوهوا طفولة أبنائنا. بعد إغلاق مدرسة (معلا) للسباحة، صرت أترك شغلي لآخذه إلى المسابح في مزارع الضباط. هناك فقط آمن عليه. تصوروا: أمس قبضنا أخيراً في جوبر على هذا الكرّ من جبهة النصرة.. وعامللي حالو سوري وبدو كرامة… من ورا هالكرارة تركت شغلي بالجراحة وتفرّغت لخدمة الوطن… يا فعّستو تفعيس… يا فعستو تفعيس… يا فعّستو تفعيس لحتى ينطق عن جماعتو هالكلب، وما كان ينطق والقيادة عم تستنى مني خبر.. هلق رايحلو.. راح ريّح مرافقتي من وسخو…
يرفع الدكتور جنب قميصه الأبيض كالثلج، ويبان المسدس بهياً كعريس…
تطلّعوا. شايفين هالرصاصة هاي براس المشط. هاي رصاصة مو بس متفجرة، وسامّة كمان… ولك وحياة المسيح حتى هاي مستكثرها عليه…
يرين الصمت في الباص الصغير. يحرك الدكتور أنطون هذا الصمت الراكد:
ـ جويل يحب الموسيقا. قل لي يا جويل، يا روح البابا: أي موسيقا أحلى؛ موسيقا عزف الكمان، أم صليل جنازير الدبابة فوق رؤوس الإرهابيين؟!
ـ يا بابا، أجمل منهما تكّة رصاصة القناص في قلب الهدف!

 

الجزء التالي:  الآن أيها السوري – ٢

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.