الصفحة الرئيسية / تجريب / نزوح عابرٌ للدول
نازحون سوريون في الليل عبر الحدود السورية الأردنية.
نازحون سوريون في الليل عبر الحدود السورية الأردنية.

نزوح عابرٌ للدول

نجاة عبد الصمد

 

أنا الصبية السعيدة الحظ ما تزال أنفاسي تعلو تهبط، وقلبي ما يزال يخفق بانتظام. وأمي كذلك، إلا أنّ خفق قلبها صار ينتظم حيناً، وأحياناً يتقطّع. لذلك فأنا منذ اليوم ربّة من بقي من العائلة

بلفور أصل علّتنا المزمنة. لم أكن جئتُ إلى الدنيا حين أنجزتْ عائلتنا نزوحها الأول من فلسطين إلى الأردن إثر وعده ذائع الصيت. ثم حمل جدي من استطاع من عائلته، وجاء بها إلى مخيم اليرموك. طاردتنا شرور بلفور حتى بعد اهتراء عظامه بوقتٍ طويل، لتبتلينا بنزوحٍ جديدٍ من سوريا إلى لبنان إثر (مؤامرة الكون) على سوريا.
لم ننزح إلى لبنان بغربةٍ كليّة؛ لأنّ أحد معارف أبي تبرّع باستضافتنا. أسكننا في بيته المتواضع في ضاحية بيروت الجنوبية. لم يكن مضيفنا الكريم قريباً لنا برابطة الدم، هو صديق أبي الذي اشتغل معه في الكويت في الثمانينات، وعادا كلّ إلى بلده بعد حرب الخليج الثانية.
لم نهنأ في أمان بيته أكثر من أسبوعين. تجمّع الجيران في بيت الضاحية وأجبروا مضيفنا على طردنا. هم يعرفون أنّ أسلاف عائلتنا قد ناصروا معاوية، ولم يغيثوا أبناء الإمام عليّ يوم وقعة كربلاء. لكنّ حماسهم لم يفض إلا بعد خطاب للسيّد يستحثهم على نصرة السيدة زينب، المستغيثة بهم من مرقدها في الشام.
نزوحنا من الضاحية كان الأصعب. فبعد أن كنا المشاهدين؛ صرنا نحن تلك الصور (الحصرية) التي تبثها شاشات الفضائيات المواكبة للحدث: صرنا نحن الوجوه المذعورة التي تتطلّع حولها في شوارع بيروت الغريبة. صرنا نحن الأيادي المثقلة بالصرر الخفيفةٌ، والأرجل الرخوةٌ التي تمضي إلى لا هدف، وتستريح تحت ظلال الشجر، وتعثر على كراجٍ مهجورٍ يصلح للمبيت. تظنّ مقامها فيه قصير، وإذا به لا ينتهي

بعثنا إلى أخوة أبي في البرازيل وفي كندا، لعلهم يجدون سبيلاً لعوننا

وظلّ أبي وأخوتي الثلاثة يبحثون عن عمل.

اشتغل أبي وأخي الأكبر في مصبغة في قلب بيروت. يعملان معاً بأجر عاملٍ لبناني واحد، وبدوامٍ أطول من دوامه بساعتين.

في ذلك المساء اشتعل الرصاص في الساحة أمام المصبغة بين لبنانيين منقسمين إلى أنصار الممانعة وأنصار أعدائها. واستقوى الفريقان بشريعة النار، وتمطّت شظايا سخية من الفريقين على امتداد جسد أبي وأقل سخاء منها في بطن أخي.

استراح أخي الأكبر من طحاله ومرارته وثلاثة ارباع كبده. انتزعها الطبيب منه مع الشظايا التي آخت أحشاءه بوفاءٍ نادرٍ في بيروت. وما يزال أخي في المشفى. لا يريد أن يموت. لا لأن الحياة حلوةٌ، لكن لأنه لا يريد مصير أبينا.

احتضر والدنا في إحدى مشافي بيروت أياماً عشرة، كنا خلالها ممنوعين من زيارته في قسم العناية المركّزة ريثما ندفع أجور رقاده هناك، وأجور الأطباء، وكلفة الأنابيب الموصولة إلى جسده المثقّب بالشظايا وبالنزوح وبالفقر الطارئ.
ربما، في احتضاره الطويل، آنسته تذكاراته التي لم يلحق أن يجلبها من مخيم اليرموك: صورٌ كثيرة لأركان عائلتنا الموزّعةً بين القارات الخمس، علب دواء السكر والجلطات على الطاولة أمام الصور، مفتاح بيت يافا الصدئ، المعلّقٌ على الجدار خلف الطاولة.
أبي يحتضر في المشفى، وأمي التي واضبت على الركوع أمام إدارة المشفى أياماً عشرة، لم يشفع لها، لا استرحامها ولا احتراق عينيها ولا انفراط قلبها. تعود من هناك كلّ يومٍ أكثر ذلاًّ، وتصرف وقتها الثقيل بالطواف حول جدران الكراج، تصلّي لكي يعود أخواي الصغيران من دمشق. كانت أرسلتهما فور دخول أبي إلى المشفى، ليأتيا بالمال من أختي المقيمة مع زوجها في دمشق، المال الذي سيفكّ الرهن عن احتضار أبي
أصرّت أن يسافرا معاً ليكون واحدهما عوناً لأخيه. فأخي الأصغر مريضٌ بالسكر الشبابيّ، وعليه أن يزور طبيبه في الشام.
ماتزال الشام الجريحة أرأف بأهلها من سعير بيروت.

ومات أبي.
مات ولسنا حوله لنقول له: نحبّك يا أبي، ولا مَن يقرأ الفاتحة على روحه، أو يُسبِل عينيه على حياته الرخيصة الآفلة، أو يلقح بطانيةً تستر عريه وجروحه السائلة قيحاً وذعراً من شدة وحدته
رماه عمال المشفى في ردهة المشرحة رحمةً بأسرته من أن تضاف إلى فاتورتها تكلفةُ التبريد داخل المشرحة.
مضى أسبوعٌ على حجز الجثة في الردهة الضيقة. وطافت رائحتها في حنايا المشرحة لتبعث مراسيل احتجاجها: لماذا بادرها السيد بلفور أولاً، وبعده العصابات الكونية، بهذه الإساءة الثقيلة، أو لتستفسر من جدّها معاوية عن الشعرة المعيذة من أهوال الحروب، أو لتسأل ملاكي الموت أن يرسلاها إلى تراب فلسطين، أو إلى تراب ريف الشام، أو إلى الخلاص في رحمة التراب، أيّ تراب.

ولم يعد أخواي. ولم يكونا وصلا إلى دمشق. ولم يلتقيا أختنا فيها.
احتجزهما الحراس السوريون على الحدود اللبنانية بتهمة أنهما فلسطينيان.

يستطيع الفلسطيني أن ينزح من سوريا متى شاء، أو متى نفذ صبره من الخوف أو من الجوع. ولو نزح، فليس له أن يعود إليها

كانت تهمة أخويّ مضاعفةً لأنهما فلسطينيان أولاً، ولأنهما يحملان وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين صادرة عن الحكومة الأردنية. تصادف عبورهما للحدود مع طرد السفير السوري من الأردن بعد تصريحاته غير اللائقة بحقّ الحكومة الأردنية. ولن تسكت الحكومة السورية على الإهانة الشنيعة، وستبعث أولى طلائع ردّها عبر أخويّ.
جرّدهما حرس الحدود من هاتفيهما الجوالين، ومن هديتهما الصغيرة لأختهما، ومن سترتيهما الجلديتين، ومن المال القليل الذي كان معهما، ورحّلاهما بالقميص الداخليّ والبنطال إلى أقرب سجنٍ يودعانهما فيه ريثما تكتمل قافلة فلسطينيين مثلهم، ترحّلها الحكومة السورية على نفقتها لترميها، هديّةً ملغومةً، على الحدود الأردنية.

عرفنا مصيرهما متأخرين. كنا انطفأنا تماماً بعد اختفائهما، ولم يوقظنا من مواتنا البطيء سوى نداء الرائحة من ردهة المشرحة. طفتُ مع أمي نطرق أبواب الطيبين، نشحذ فكاك الرهن عن جثة أبي، ونحظى أخيراً بدفنه في مقبرة الغرباء، وأعود منها أنا وأمي إلى خيمتنا لصق الكراج، نحن (النازحتان) اللتان سيصبح اسمنا بعد يوم الدفن: يتيمةً وأرملة

Photo © UNHCR/J. Kohle

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.