الصفحة الرئيسية / تجريب / كما لو أن موتكَ سيرةٌ ناقصة
Omran Younis - عمران يونس
Omran Younis - عمران يونس

كما لو أن موتكَ سيرةٌ ناقصة

وائل قيس

 

هممتَ الرحيل في هجرتكَ، أخذتكَ الظنونُ بعيداً، ونسيتَ كيف سيأتيكَ الموت، وكيف ستكون رائحته نفسُها. مستمتعاً بحس الخوف والهروب، الاكتشاف والدهشة، أعددتَ حقيبتكَ ونسيتَ أن تأخذ لفةً صغيرة من الخبز المغمس بالزيت والزعتر مع الخيار المملّح، لم تكن تدري في هجرتكَ غير المقصودة أنكَ ستعوي في عزلتكَ مع قطيعٍ من الكلاب الملقحة، تلك التي تسير في أطرافِ الاتجاهات، ولا يكفيها اتجاهاً واحداً. وحيداً كنتَ تهمُ السيّر في ضحى الاتجاهات دون درايتكَ أين تذهب، وإلى أين تأتي. دون درايتكَ بأن للموتِ مكائدٌ كثيرة، وأولها الغدر.

أخذتَ معك الحذر، ونسيتَ الظنون. أخذتَ الطيبةَ، والعطف، وبعضاً من تفاصيلَ اسمكَ؛ الذي هو اسمي. أخذتَ السفر كعقارٍ للرحلة، وبعضاً من الكسل، وقسوة بعبع الموت الطيب. كنتَ نائماً على جنبكَ الأيمن حين جاءكَ في المنام البعبع الطيب. كنتَ تبتسمُ لحلمٍ نادرٍ ما يأتيكَ طيباً مثلما كنتَ تسعى له في وحشتكَ، يومها هزكَ شبحه بكامل جبروتهِ وحينَ فتحتَ عينيكَ رأيتَ وجهاً أليفاً، أبيضاً، يبتسمُ لك، يومها نهضتَ من سريركَ وشددتَ كامل جسدكَ، ولم تصرخ.

نهضتَ، وأجلستَ الموتَ إلى جانبكَ، أشعلتَ له سيجارة لونها حنطيٌ كبشرةٍ مليئة بالنمش، وشعرٌ طويلٌ، لطيفٌ، طريٌ، بخصلٍ ناعمة. يومها ابتسمتَ له وكنتما تضحكان، تلمستَ وجهه جيداً، أنزلتَ أصابعكَ القصيرة إلى عنقه، وظننتهُ حبيبتكَ. يومها، ولأنكَ كنتَ طيباً معه، ولم تؤذه، أو تشتمه بلسانكَ السليط، اعتقكَ، وأجّل موتكَ إلى وقتٍ آخر. وجاءكَ الصحو أنكَ في منفاكَ، وستموت في عزلتكَ ساعةَ الفرح، طيشاً من الألم. وبصوتهِ المهزوز حدثكَ الصحو، وقالكَ جيداً.

وأنتَ في منفاكَ، أو عزلتكَ، أو فراركَ من القدر وأنت الذي قُلتَ يوماً “نحن نكتب “لنتمنيك” على القدر” سيأتيكَ الموتُ غفلةً. الجميع يعرف أنكَ اعتدت التربص به خشيةَ أن يهمل أحدهم وصيتكَ في حرقكَ، وإيصال رذاذكَ لمن ذكرتَ اسمه في أخر اسمٍ ذكرته، حرصاً منكَ على تنفيذ وصيتكَ ما زلتَ تحتفظُ بجسدٍ خالٍ من الجروح والتقرحات البسيطة. ونسيتَ أن تأخذ معرفتهم لموتكَ على محمل الحذر. وبصوتهِ المهزوز حدثكَ الصحو، وقالكَ جيداً.

سيأتيك الموت حتماً، وسيكون متعدد الخصال والمواهب. الموت هو الحي الجبان الذي يأتي أصدقائه غدراً، وفي أحرج الأماكن تقصداً. سيأتيكَ وأنتَ تحتضن عزلتكَ، ولعلكَ كنتَ في نهاية ترتيبكَ لحاجياتكَ. كما كنتَ وحيداً في منتصف غرفتكَ واقفاً تبصرُ الصور التي انتهيتَ من تعليقها على الحائط، أو كما كنتَ تبتسمُ في وجه الصور وتصرُّ على أن تخصص حائطاً لصور حبيبتكَ، حبيبتكَ التي لن تأتي إلا مع قدوم الأجل. سيأتيكَ الموت ليريح الحائط من عنادكَ الدائم له. لم تعتد النظر إلى الحائط فارغاً، هشاً، أبيضَ، ولا الحائط اعتاد الامتناع عن الزوار الخائبين أمثالكَ، هكذا جاء الموت وكان الفعل الفصل بينكما، وقضي الأمر.

سيأتيكَ الموتُ، وأنت تعالجُ وحدتكَ بتفاصيل حبيباتكَ، وستقفُ طويلاً عند آخرهنَّ – ولآخرهنَّ مئة وإثنتان وثلاثون صورة شعرية وعشرون ندبة نمش وأربعة وشوم – تنظرُ في وجه الملاك البعبع، وكأنكَ ترجوه أن يؤجل موعدكَ بضعَ دقائق، لتتذكر تفاصيل أيامك القصيرة، وأحجيات الجدات، وأضاحي العيد التي كنتَ تكره رائحة دمائها، وخروج الروح من جسد القربان. سيأتيكَ الموتُ، وستكون منصاعاً له، لأنه حقق إحدى أحلامكَ الكثيرة وأجلس حبيبتكَ إلى جانبكَ، أنتَ الذي كنتَ تكره الموتَ وحيداً خوفاً من تفسخ جسدك، ستمسك يده لتمضي معه، لأنه جاءكَ في أقسى حالات الفرح ضحكاً.

سيأتيكَ الموت على غير العادة، مهزوماً، سَيبصر وجهكَ الآخر، كيف كنتَ طفلاً مع حبيبتكَ، حبيبتكَ التي ستكون نهايةً أُخرى، نهايةً تتلفُ أعضائكَ، وبعضاً من أحساسيكَ التي ولِدتْ معها. في آخر الوقت، الوقت المتبقي لكَ من فرح الحياة لأجل ابتسامةِ إحداهنّ، ستموت وأنتَ مبتسم في وجه البعبع الذي يشبهك لأنكَ صرتَ شبه أنثاك، تبتسم لأن أنثاك كبرت داخلك، وكَبِرت في نظر الموت حتى صرت شهياً له. ستموت وأنت مبتسماً، وأسنانكَ بيضاء، ستموت لأنك أردت أن تموت، ولأنكَ أردت أن تكون أكثر قرباً من عنق حبيبتكَ حين أخذها الندم، سيأتيكَ الموت لأنكَ أردت لروحكَ أن تصيرَ سلسالاً في عنق آخرهنَّ، ولأنك أدركتَ أن النهايات السعيدة لن تكون مثلما تريد، أو أكثر.

سيأتيكَ الموت، ويتفسخُ جسدكَ ولن يسمع بكَ أحد، ستبدأ أظافركَ بالنمو، وسيكسو القيح جسدكَ ولن يُكتشف أثر غيابكَ، وستظنُ حبيبتكَ أن غيابكَ جاء اضطراراً، أو لسفرةٍ عاجلة، ولربما كنتَ محتجزاً لدى الجندرمة لأنك كنتَ ثملاً، وتهذي باسمها. ستؤجل موعدَ البحث عنكَ لأيامٍ، قبل أن تأخذها الذاكرة أبعد من ذلك وتستدركَ أحدهم كي يبحث عنك.

سيأتيكَ الموت، ولن تُحمل جثتكَ على خشبِ الزان وتحرق في أحد الأماكن الطبيعية خوفاً عليكَ من وجع النار، ولن ترمى جثتكَ المتفسخة في البحر خشيةَ أن يأكلكَ الحوت، وتعيش في بطنه أكثر من عُمرِ يونس، وحتى أغصان عش الحمام لن تقبلَ أن تضعَ عليها، وتحرق. سيجتهد الجميع في لفكَ في القماش الأبيض، وينزلك اثنان في حفرةٍ قصيرة لا تصل حد ركبتيكَ، ويأتيكَ الشيخُ الكهل لينادي عليكَ باسمكَ ثلاثة مرات متتالية قبل أن يقول لكَ: “أذكر ما خرجتَ عليه من الدنيا” قبل أن يأتي المشيعون ويبدأوا رمي كمشة من التراب على جسدكَ الأعزل ثلاثة مراتٍ متتالية، تحسباً لآخرتهم.

 

 

الصورة: مقطع من تشكيل لعمران يونس

 

عن وائل قيس

وائل قيس
مواليد دمشق 1987 له ديوان شعر قيد الطبع، مقيم في اسطنبول.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.