الملهاة السورية

على المصطفى

 

“بكّير طلّ الحب عا حيّ الـ لنا
حامل معو عتوبة و حكي، و دمعُ و هنا”

لا أحبّ عادةً الاستماع إلى الموسيقا في الصّباح؛ أحبّ الهدوءَ بكلَ مقاييسه.
إلّا هذا الصّباح؛ مطلع أغنية “جايبلي سلام” لـ فيروز، الصادر من بيتِ جاري وزوجته العجوزين، شدّني على غير العادة.

عادةً : أستيقظ من نومي صباحاً قبل صياح ديك جارتنا، العجوز مثلها، لا أغسل وجهي فأنا من المؤمنين بأن لكلِّ وجهٍ نورُهُ، و أخاف أن يبهت ماتبقّى من نورٍ في وجهي. أو بسبب ميولي الشّديدة نحوَ الأناركيّة، وفقَ آخرِ تصريحٍ رسميٍّ لصديقيَ الحذق، اليميني المتطرّف.

أستهل شمس الصّباح بكفريّة او اثنتين , أشتم الإله قبل أن يشتمني ! أراقب أناملي تتسابق للفّ ما يقارب الثّلاثين سيجارةً .. لعلّها تكفيني لفترة ما قبل الغداء ,هذه الفترة الّتي يشكّل فيها مقدار نصف قدحٍ من الماء السّاخن المصبوب على منقوع جذور نباتاتٍ من بلادٍ يدعونها بــ “اللّاتينيّة”: قوتي الوحيد.

هذا الصباح قررت أن أكسر الروتين
“لماذا لا تزور جيرانك؟”
قال رجلٌ قصيرٌ أصلعٌ بدينٌ متحذلق يعيش داخل رأسي، وهو يعبث بسكسوكته.
“إنّها فكرةٌ جيدةٌ في الحقيقة، اليوم تزورُ هذين العجوزين، و بعده عائلةَ الموظّف التقليدي، القاطن في البيت على النّاصية، ثمّ .. تدريجيّاً؛ تزورُ تلكَ الحسناءَ في البيت فوق السوبرماركت”
أردفَ رجلٌ آخر، أصلعٌ أيضاً؛ لكنّه أجمل، يشبُه السير أنتوني هوبكنز.
“اممممممم، جميل .. جميل” أفكر
“حسناً، لمَ لا!”
أهزُّ رأسيَ معجباً بقدرتي على اتخاذ القرارات المناسبة بسرعة، أرتدي بنطالاً من الجينز الأزرق القديم، قميصاً أبيضَ تقليديّاً، و أمضي على عجل.

بكلّ أدب، على غير العادة، أطرق الباب برؤوس أصابعي.
دقيقة، دقيقتان، خمس..
ثمّ استدركت ببديهتي أنّ سمع أحدهما على الأقل متدنٍّ
فضربتُ الباب بقوة، عامدا متعمدا، و إذ بالعجوز حاملاً فأساً صدئةَ هرمة !
“ط..طوّل..طوّل بالك حجّي”
نظرَ إليّ بحنق، و سيجارتهُ تتدلى، معلقة في الحيّز الضيّق الجاف ما بين شفتيه.. المتعارف عليه بـ “فمه”.
“فوت، الله أكبر على هالصباح”

لا شيءَ مثيراً حقا في أن تدخل بيت عجوزين، فكلّها متشابهة :
تلفازٌ قديم، بعضُ المقتنيات الأثرية .. نحاسيّة غالباً، صور الأبناء والأحفاد، قدورٌ متهالكة و ملاعق خشبية في المطبخ، رائحة الطبخ تملأ المكان، لا إنترنيت طبعاً، في بعض الحالات النادرة هناك جوالٌ يعملُ بالقدرة الإلهية، لاحمّالة صدرٍ مرميّة بـ”أناركيّة” هنا أو هناك، الكثير من علب الأدوية…إلخ

“الحقني”
تبعتهُ إلى غرفةٍ جميلةٍ نوعاً ما، فيها المذياع القديم الكبير الذي سمعتُ منه الأغنية.
“قعود”
جلست
“يا صفيّة .. فنجانين قهوة زكاتك..
دخلت الغرفة قبل أن ينهي جملته، بسمنةٍ مفرطة و شعرٍ أبيضَ منكوش، نظّارة مدوّرة قديمة، عجوز تقليديّة، تشبه اللاتي يظهرن في الأفلام الأميركيّة.
“أليسَ هذا حموده ؟”
“لاء يا مرة، حموده جاي العصر”
“منيح .. طمنتني”

كانت المسافةُ طويلةً زمنيّاً بين باب الدار و الغرفة، لبطء العجوز طبعاً!،مما أدّى إلى ذوبان سيجارته، جلسَ على الكرسي الوثير رغم قدمه، أراح ظهرهُ، أطلقَ تنهيدةً بسيطةً، ثمّ أشعل سيجارةً، مجّها باستمتاع، ثمّ أغمض عينيه.

“يلعن روحه لغسان كنفاني؛ كرّهني بالـ”صفيّات” كلهن”
غمزني بعينهِ اليسرى، و أنا أريدُ أن أكتمُ ضحكي، ولا أقدر.

“ضحاك، ضلّك عم تضحك.. ما حدا آخد معو شي”
أغار من تلذّذه بالسيجارة، أبحثُ عن علبةِ سجائري؛ لا أجدها، و قبل أن أدركَ، يرمي سيجارةً في وجهي

“خودْ، لعمى عهالجيل .. ما بيعرف راسه من جرياته.. قال بيدخن و نسيان الباكيت ..هه”
استضافته لي، و انتظاري لفنجان القهوة حضّاني على السكوت.
“حدّثني عنك، عن حياتك اليوميّة، عن أيام شبابك القديم”

“حسناً، كما ترى؛ أستيقظ باكراً بحكم عادات العجزة، و… أنتظر الغداء”
أخذَ مجّةً من سيجارته، فكّر قليلاً، ثمّ أردف :
“وأمّا عن بعد الغداء؛ فكأسٌ كبير من العرق يكفيني لأبتسم في وجه زوجتي، ثمّ آخذُ قيلولةً طويلة، و في المساء أشاهد التّلفاز… لا نشاطات أخرى لي، فزوجتي العبوس…”
ينظرُ بحذرٍ إلى باب الغرفةِ، ثمّ يعودُ فيهمسُ: “زوجتي العبوس تجلبُ كل حاجيات المنزل، و أنا راضٍ تماماً!”
وقعُ خطوات “صفيّة” يرتفعُ شيئاً فشيئاً، تقفُ لبرهةٍ عند الباب، ثمّ تدخل:

“أهلين حموده!”
“صفية كم مرة بدي قللك : حموده جاي العصر، هادا مو حموده!”
تضعُ صفية الصينية على المنضدة الخشبية، ثم تغادرُ الغرفةَ مزعوجةً.
“اعذرها يا بنيّ، فهي كما لاحظتَ: خرفةٌ، تحسبُ كل زائرٍ حموده”!
“من هو حموده؟”
“حموده هو محمد ابني، حموده في صغره كان يعذبنا كثيرا، في دراسته، في أكله، في التقيد بمواعيد ذهابه إلى النّوم.. كان مشيّبنا!”
ضحكَ بعفويّة، بصدق، وهو صافنٌ في الجدارِ ورائي

“لطالما قلتُ له: ادرس، لتذهب إلى الجامعة، علّك تقابل فتاةً عمياء القلب تحبّك وتخلّصنا منك، لم يسمع مني حموده، حتّى جاء موعد سوقه للخدمة العسكرية الإلزاميّة، قلتُ لهُ :لاتذهب؛ أعرفُ شخصاً يستطيعُ تهريبكَ إلى لبنان، انتظر قليلاً، و لكنّ حموده، ولظرافته التي يشتهر بها، قال لي :إي والله لو تبعتني على لاس فيغاس بدي روح.. بس مشان اشتقلكون شوي .. مو أكتر”

ثمّ أضاف: “والله لو عرفتُ أنّك ستقتلُ يا حموده لأجبرتك على الهروب،بالصّرماية!”
قالها لي ثمّ أطرق رأسه، واجهشّ بالبكاء!

ابتلعتُ ما تبقى في فنجاني دفعةً واحدة، و استأذنتهُ و دموعيَ على وشك السّقوط.

أمام بابه، و أنا عائدٌ إلى منزلي، استوقفني شابٌ يسير على الطريق، وسألني: “ماذا كنت تفعل عندَ العجوزين؟”
“كنتُ أزورهما لأوّل مرةٍ، فقد سكنت منذُ فترة هنا، في هذا الحي، لماذا تسأل؟”
“لاشيء، لكنّي أراكَ متجهّماً؛ هل ضايقك أحدهما بشيء؟”
“نوعاً ما، حدّثني عن ابنه محمد”
“محمد؟ من محمد!!”
“محمد..حموده.. ابنهما الذي قُتلَ في الجيش، ألا تعرفه؟”
“هه.. ههه.. هههههههههه.. صديقي.. لايوجد حموده ولا عبوده ولا حسون ولا أيّ من الأسماء أو التّرهات الّتي يتفوّهان بها، عُد إلى منزلك، اغسل وجهك، فما بقيَ فيهِ من نورٍ .. قد بَهُتَ”.

 

 

الصورة:SILT, digital still from “Shadows of the Sun” –  © Mildred Howard

عن علي مصطفى الدرزي

علي مصطفى الدرزي
شاب سوري، فقط.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.