الصفحة الرئيسية / زوايا / ما من مكان يحتمل إثم أسلافي
تفصيل من تشكيل لفاتح المدرس
عائلة.تفصيل من تشكيل لفاتح المدرس

ما من مكان يحتمل إثم أسلافي

وداد سيفو

 

الخير والشر، متلازمتان لابد إما الإلقاء بكليهما، أو الاحتفاظ بهما سويّة. المدن والأماكن المزدحمة، أماكن الصلاة والخمارات، الكهنة، القديسون والعاهرات، جميعهم عبروا يوماً في حكايا عجوز ما.

سأنتظر على حافة الشاطئ، هناك حيث يتطهّر الظلّ من عرَق الشمس. هناك، حيث سأدفن أظافري، تلك التي أورثتني إياها سلالتي. لا أريد أن أحمل ثوراً في داخلي.
النعاج كثيرة، وأيضاً الذئاب. سأكتفي بأن أكون العصا عوضاً عن راعٍ كذّاب ..!

لقد ضاقت على أسلافي شوارع المدينة التي حملتني، أعتقد أن أمي كانت لتلدني في بيت من طين، مفضلةً ذلك على المدنيّة والمدن التي احتمت بأسوارها على مدى أربعين عاماً. هم ، ومثل كلّ بدائي يحنّ دوماً إلى القطيع الذي كان، لن يحتملوا رائحة العطور الفرنسيّة ولا الشراب الفاخر؛ كلّ الكؤوس المرصعة لا تساوي رشفة من نهر أو ساقية. يكفيهم رقصُ غجريّة تفوح عرقاً كي يثملوا حتّى الصباح ..

المدن بنظر أجدادي، بؤر أحقاد؛ “حينما يحين الوقت.. سنلقي بالمدينة في البحر”. هكذا تقول عيونهم المفتوحة على كلّ بناء عالٍ، على الأضواء في الشوارع، على الأزقة المعبّدة، أعواد القصب والشوارع المسقوفة. “صوت الأفاعي أبهى من صوت البيانو”.
أولئك الغرباء عن انعكاس وجوههم في المرايا، لن ولم يجدوا مرايا لهم في ماء دمشق، “سيختفون، كأنهم ملح أو سماد”.
“لقد لفظتني الأرض” ، ( يقول أبي)، “لا مكان لي هنا ولم يكن يوماً مكاني، سنعود إلى شتلات الدّخان، حقلة بندورة وبضع شجيرات زيتون. سكبة بصل و نعنع، هكذا تكون الحياة مكتملة”.
الوجبات الجاهزة وأصابع الطّباخين في المطاعم ذات الأضواء الخافتة، لا تثير رغبته للطعام؛ ” للأمام أو للخلف، ومهما مرّ الوقت لا مكان لنا هنا. لابدّ وأن الريح ستضرب مناقب الأسلاف”.

لقد اشتقت للفتى الذي كنته، حينها كان للدّود طعم شهي!، حينها كانت وجبة تراب خيراً من ألف مدينة. إلى اللقاء يا أضواء المدينة، إلى اللقاء أيتها اللوحات المعلّقة في الشوارع -“كم دُفِع ثمنها تلك ؟!”- (يكمل): “لا بدّ وأنّ بثمنها كنت اشتريت ثوراً للفلاحة وجرّافة … غير مهم، عندما يحين الوقت سنرجع لحملها، إن لم تكن لي ستذهب لغيري، وداعاً الآن”.
أما أنا، سأعود ككل الذين رحلوا عن تلك المدينة، سأعود حيث الحناجر المقتلعة، حيث اليمام الجائع وثوب أمي الممزّق، هناك حيث عيونها تذرف دمعة على شال المدينة، قبل أن يعلن أجدادي أنهم أحرقوا روما وشالها، ولم يبقَ في ذلك المكان سوى دموع أمي ، سأعود إلى موتي هناك.
شجرة الزيزفون أسلافي القادمون من تحتها، لن يحتملوا عطور شانيل، ولا رائحة الغاردينيا؛ تلك عطور الأغنياء…!

أحقاد أجدادي ستلقي بكلّ المدينة إلى البحر، وستشرب وراء كل شارع يغرق، نخب انتصار حذاء الطاغية. سيهدون نصرهم، لكل نيرونٍ سيأتي.

 

 

الصورة: تفصيل من تشكيل لفاتح المدرس

عن وداد سيفو

وداد سيفو
كاتبة سورية، خريجة مكتبات ومعلومات

تعليق واحد

  1. جميييل ياوداد..شكرا…

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.