الصفحة الرئيسية / زوايا / أنا إنسان ماني حيوان
hand-Richard-Dupont
hand-Richard-Dupont

أنا إنسان ماني حيوان

وافي بيرم

 

جالساً في غرفتي تحت رفٍ عليه بعض الكتب، على أريكة تعتقت فيها رائحة بلدي، بجانبي مسجلة صغيرة على طاولة صغيرة مكسورة يظهر عليها آثار التعذيب والحروق بالسجائر، وبجانب المسجلة صحن السجائر قد امتلأ برماد ذل أربعين سنة، بدخان سيجارتي أرسم مستقبلي ويتبدد، نافذتي مغلقة منذ مجزرة، الستائر ملّت الوقوف وبدأت علامات الترهل تظهر في جسدها، أستمع للموسيقى بصوت يكاد يخرج من حنجرة جهاز الكاسيت، أصوات من بعيد تتجه نحو نافذتي، أنظر إليها وهي ترتجف فزعاً كلما اقتربت الأصوات، هدير أصوات وصرخات حطم زجاج النافذة وأظهر سوأتها وخجلها من أطرافها العارية مع نظرة فزع ودهشة، تقترب الأصوات حتى تسكن رأسي، وتضرب طبولاً تمزق جدران داخلي، ثم كما جاءت تبتعد رويداً رويداً حتى تتبخر، وأنا غائب في ذهولي ونظرتي الجامدة، يوقظني سقوط رماد السيجارة من فمي على نفس الأريكة التي تطرزت بهذا الرماد.

ما هي إلاّ ساعات حتى انفجر باب الغرفة كأن بركاناً بصقه، ودخلت علي غربان سوداء وبدأت بنهشي، واستعانت بالشتائم لتذكيري بأني حيوان أليف مدجّن يعيش في مزرعة، قذفوني أرضاً بركلاتهم، وانصرفوا…

هدوء آخر وسكينة عششا في جسدي، وأنا أفتح عيني ببطء لأشاهد حولي خيالات الغرفة، رفعت يدي وتحسست دماء وجهي تنزف على أرضية الغرفة التي شهدت على تاريخ بلد، يصنع أمجاده بضرب الحيوانات وترويضها، بصعوبة وقفت على قدمي وخرجت من الغرفة وأنا أضحك، أصابني ضحك هيستيري، فوجدت والدتي مقابلي فأجلستني في حجرها وضمتني ووالدي ينظر إليها نظرة العاجز، بوجه شهد على أرض مساماته حروباً ومجاعات ومجازر، نظرت إليهما وقلت لهم ضاحكاً (أنا إنسان ماني حيوان)

خرجت من المنزل، ووجهي تعلوه ابتسامة بلهاء، قابلت جاري وصديق طفولتي جالساً في زاوية الحارة، فقلت له (أنا إنسان ماني حيوان) فربت على كتفي ولم ينبس ببنت شفة، أقبلت على حاجزٍ وبادرتهم فوراً (أنا إنسان مالي حيوان)

فصعد الدم إلى رؤوسهم وأقاموا لي حفلة راقصة باللكم والرفس، وطردوني وأنا أضحك وأصيح (أنا إنسان ماني حيوان)، نفس الغربان في مكان آخر شاهدوني من بعيد ففتحوا نيران رشاشاتهم، على جثتي وهي تضحك وتصيح (أنا إنسان ماني حيوان)، تابعت مسيرتي وسددت ثقوب جثتي بأعقاب السجائر.

قابلني مجموعة من الشبان فسألوني، من أنت؟ ومن هو ربك؟ ومن هو نبيك؟ وهل تصلي أم لا؟

ظننت أنهم ملكا الموت أنكر ونكير! فقلت لهم لهما: أنا إنسان ماني حيوان

فرد أحدهم فوراً: أتسخر من منا يا حيوان؟

وقادوني إلى شيخهم الجليل، كان شيخاً بلحية بيضاء، أسمر الوجه، في جبنيه خاتم النبوة، نظراته حنونة وتشعُّ أملاً وحياة

أجلسني بجانبه وهدأ من روعي وربت على كتفي وقال: من أنت؟؟

فقلت: أنا إنسان ماني حيوان

فقال: خذوه واقطعوا رأسه وسيغفر الله له ، قادني أنكر ونكير إلى ساحة عامة، يتجمهر فيها الأطفال والرجال، وقرأوا الفرمان وقطعوا رأسي، تدحرج رأسي وهو يضحك بصوت عالٍ ويصرخ: أنا إنسان ماني حيوان

هجم الأطفال بسرعة باتجاه رأسي وانقسموا فريقين، ونصبوا الشباك، وبدأوا بمباراة قدم جمهورها رؤوس ملثمة بالسواد

أحد الأطفال ومن فرط الحماس سدد رمية عالية ودخلت من نافذة مكسورة، استقر رأسي عند قدمي والدي الذي ما زال ينظر إلى أمي بنفس النظرة وعلى خده دمعة مُرة، وأمي لازالت تحتضن برواظ صورتي وتبكي فراق ولدها منذ مجزرة.

الصورة: ريتشارد دوبونت

عن وافي بيرم

وافي بيرم
مدون من سوريا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.