الصفحة الرئيسية / تجريب / عن البلد… مقاطع من نص طويل
يامن يوسف - طباعة لينوليوم 2013
يامن يوسف - طباعة لينوليوم 2013

عن البلد… مقاطع من نص طويل

على عجلٍ وضعتُ أمامي إبر التخدير وبدأتُ بقصّ ملابسها الممزقة. وبرؤوس أصابعي رُحت أنزع بقايا القماش الملتصقة بالجروح، والتي عليها قطع دم سميك ومتخثر. وبينما أحاول تخديرها يعود جرح الشظية الثاني في فخدها إلى النزيف المتقطّع، فأقوم بالضغط قليلاً على الشريان الذي يمد المنطقة المجروحة بالدم. أدخل رأس الملقط المدبب وأخرج القطع المعدنية المنثورة تحت الجلد، فينفر بعض الدم من حين إلى آخر كلما أحاول إخراج شظية جديدة. وضعتُ المشرط على بداية الجرح المحترق وجذبته، فيما كان علي استبدال قطعة القماش الممزوجة بالدم، والتي بدت ككائنٍ أسطوري، بقطعة جديدة. «حطينا دم قلبنا عليك لنشوفك دكتور، طلاع مابدنا نخسرك»، قالت أمي.

على الحدود التركية كان أول شاب سوري مصاب قابلته. ذهبت إلى تلك الحدود كاشتياقٍ قديم متأصلٍ في داخلي. بعد غيابي لسنوات عديدة في البلاد الباردة. لا أعرف من أخذني إلى الداخل؛ أقدامي أم أقداري، أم قداسة الدم الذي دفعته عائلتي من أجلي. كُنت قد تذكرت قولاَ لصديقي منذ سنوات قبل أن ينتحر: «إن حياتنا رتيبة». لكن أمي كانت تريد لي، أنا الولد الشاطر والنجيب أن أصير طبيباً، لترفع رأسها بي أمام العائلة الكبيرة ولكي أتماشى مع الموضة الدارجة في عائلتنا آنذاك «إن لم تكن طبيباً أكلتك الذئاب». لا ألوم أمي على نظرتها تلك، بل هي كانت تعتقد بأن أولاد العائلة الأطباء ليسوا أحسن مني. وافقتُ على دراسة ما لا أميل إليه. وقتها كنت أسمع أن مهنة الطب مهنةٌ إنسانية في المقام الأول. ولم أكن أدرك ماذا كان يعني ذلك. في المجمل كان شيئاً من «البرستيج»، لكنه إيجابيّ. غير أن مغريات السفر إلى الخارج روَّضت رغباتي حينها. ومع طول سنين الدراسة، أرهقتني رتابة الحياة، وأمنتُ أخيراً بجملة صديقي المنتحر. وكان يتحتم علي أن أخرج من هذه الرتابة، لأغوص في هذه الفوضى. ولكي لا أهرب من بعض القيم والأخلاق العالقة في ذهني، والتي لطالما كانت مقدمات كتبنا العلمية. لكن في نهاية المطاف هنا في هذا المستشفى السري، رأيت نفسي أحب أمي والطب بشكل فظيع.

استفاقت الشابة تنظر إليّ باحثةً عن شخص ما، ثم ابتسمت ونامت.

طنينٌ في اذني، كأنّني أسمع أصواتاً ناحبة. واضطرابات في الرؤية تجعلني أرى أشباحاً تراقصني. أشعر بالاختناق مع لفحات رياح قوية تصفعني، كأنني جثةٌ باردةٌ ومحاصرة في منزل يحترق. عَطْشى كرغبتي بأن أشرب البحر، بل كحبلٍ ممزّق الخيوط تتنافس مجموعتان على شدّه. وأتألم. ليس كآلام الروح والفشل، بل أهون منها، كآلام النكبة والنكسة ويوم ولادتي، ولا شظية تنخر عظامك، كمسدس تثقيب. من يستطيع الشعور بكل أوجاعي؟ أعجز عن وصفها. أحاول أن أنساها بالصمت، بالشرود والسكون. وبالحديث مع نفسي عن أشياء لا منطقية، ثم أنفجر فجأة! لست قادرةً على النسيان لكن هل سينساني العالم عندما أموت!؟ إن ذلك عصي على فهمي. لا أريد ذلك فأمامي القليل لأتخرج.

كان يومي جميلاً بعض الشيء دون معرفتي بالأسباب التي تجعله كذلك. أبي مُرتاح بتمدده على أريكتنا الواسعة. وأمي مستمتعة بطهي الطعام في المطبخ، وفي العادة لا أحد يستمتع بكل ما ذكرت، أو بالفعل لم أكن أفكر أننا كنا نستمتع بذلك أم لا. في مثل هذا اليوم قد تنتقل إلى عالم أخر. لكن أن تعلم بأن موتك بعد يومين أو بضعة شهور، غاية في الصعوبة. لأنك ستقضي ما تبقى لك في الانتظار والتفكير. والأصعب أن تتفاجأ بالموت يحيط بك في لحظات لا تتوقع فيها شيئاً مؤسفاً كموتك من غير إرادتك، رغم ما يشاع عن أن المرء يستشعر بقرب دنوّ أجله أحيانا. بالرغم من القصف والبراميل وكل مسببات الموت، لم نكن نشعر أنها تهددنا، فقط لأننا لا نريد أن نموت، لكن اتضح لي أن ذلك لا يكفي لننجو. وصدقوني لم نكن نتخيل شيئاً كهذا قد يحدث. وفي هذا كنت أتجنب الخوف من الموت. لكن أن تكون في ذروة الحياة، ويأتيك ما لم تتوقعه ويسرق منك كل شيء، فهذا صعب. لا أستطيع وصف ما حدث فعلاً في ذلك الوقت. أخر ما أتذكره أن أشعة شمس خفيفةً تتسلّل إلى داخل بيتنا متجولةً بين الغرف، ورائحة طيّبة تفوح من المطبخ مع صوت أختي الصغيرة تتكلم مع ألعابها. بالفعل كان الوقت غير مناسب للموت.

الحروب يفجرها الرجال نعم، لكن لمَ الرجال يقتلون بهذه البشاعة ولمَ قلوبهم قاسية بهذه الطريقة الغريبة. لمَ لا يتعبون من القتل؟ لا أعرف. ولا أعرف بماذا يختلف الرجال عن النساء؟ أعلي أن أفكر بهذه الطريقة أم ماذا. أشعر بمخلوق يخنقني. اللعنة على الرجال! استيقظت لأرى رجلاً يحملني، أنا وجاثُومي الذي منعني من الصراخ في وجهه. قال لي أن أهلي بخير، وعلي ألا أخاف. ثم بدأ يقول لي بعض الكلمات الجميلة، كُنت أحاول أن أقول له إنك تُحاكي جثة. وبعد أن تكلم كثيرا، خجلت. فكان علي أن أغمض عينيّ. لا أعلم ما حدث بعدها لكنني أعلم أنني فتحت عينيّ مشتاقة لذاك الشاب الثرثار، لأرى رجلاً في يده مشرط ينظر إلي. فابتسمتْ وهربت.

صفارات سيارات الإسعاف كانت تثير فيّ الرهبة، عشقتها أحياناً، وتوجست منها أحياناً أخرى. وكأنها مراكب الخلود، مراكب الخلاص، والحفاظ على الوحيد المقدس. أذهب أحياناً مع مخيلتي وأنا أقود سيارة إسعاف لها أجنحة تجعلها تطير فوق كل السيارات، وأعود غانماً البريق في انعكاسات عيون المارة. لم أتخيل نفسي قائداً لطائرة حربية، ولا سائقاً لسيارة إسعاف «بيك أب» أحاول الهروب من الطائرات والبكاء.

كنت أحتاج إلى طاقةٍ كبيرة للذهاب خارج الحارة فكيف بمقدوري الهجرة إلى دولةٍ ساخطة أو إلى أوروبا، ذلك ليس في حساباتي، أنا ابن هذه المدينة، وهذا الحي الدرويش. تعلم أمي أنني على هذا الحال، ولن أتغير، فيما أبي لا يبالي. بل أشعر أحياناً أنه لا يخاف شيئاً، وغير مهتم إن مُت أنا أو عاش ابن الجيران. قدرٌ مكتوب كما يقول، ربما. وربما ورثت خليط من جينات الاستسلام واللامبالاة من أعمامي المتبعثرين في الأمريكيّتين منذ سنين كثيرة.

لذلك لا أجدني أفكر بالعمل في الخليج ولا العيش في أوروبا. يقول لي صديقي من النافذة الزرقاء: «أحلامك محاصرة مثلك». ردّي كان: لا. أهلي في الخارج بخير، وأنني قادر على الخروج، لكن عدداً لابأس به من الناس لم يخرج، وسأخرج إن مات الجميع. لست أمثل دور الصامد، بل ببساطة أعيش حياتي يوماً بيوم. وفي يومٍ وجدتني مدعوّاً لتحقيق أحلامي الطفولية، قال لي المسعف الذي كنت أحياناً ألوح له بيدي من النافذة عندما يمر. «أني شخصٌ لامبالٍ وأنهم بحاجة لمخلوق مثلي، يذهب إلى المناطق التي تسقط فيها البراميل لإخراج الجرحى، ونقلهم». بعد شهورٍ قليلة أثنى الجميع على عدم مبالاتي واندفاعي الواثق بالذهاب إلى مناطق سقوط البراميل لإنقاذ المدنيين. أما أنا فلم أكن أحس بشيء. أقصى درجات النشوة عندي كانت أوقات الشاي، وضعتُ لي طاولة صغيرة قرب المستشفى، أجلس أمامها أنا والمسعفون منتظرين هطول البراميل. وبينما أرفع وأخفض إبريق الشاي وأنا أملأ الكاسات الصغيرة، محاولاً جعل الرغوة تطفو، يسقط برميل.

وهي بين يدي أشعر بدمائها الساخنة تنساب بلطف لتدغدغ عروق معصميّ، أقول لها: لا تقلقي أهلك بخير، تحاول جاهدة أن تدفع كلماتٍ حبيسةً في حنجرتها للخروج دون جدوى. وأنا لم أكن أعرف ماذا سأقول لها لكي لا تنام فوجدتني أقول: أعيريني انتباهك من فضلك أنا لا أجيد الرسم، بل أسكن في البناء الذي يوجد في قبوه المستشفى الجديد. ولا أجيد العزف على البيانو والعود، ومع ذلك أكره العملية التعليمية ولا تروق لي الرياضيات، بل لا أفهمها، هي والكثير من أبيات الشعر القديم. لكن أستطيع أن أقول لك أن وجهك مشرق. وعيناك جذابتان. وأتمنى أن أتزوج بنتاً مثلك. وأفيق على صوت الأولاد، إن الحياة بالفعل جميلة وأنتِ أمامك أيام حُلوة عليك أن تعيشيها، لذلك حاولي أن تكوني يقظة، وبالمناسبة ثوبك الأحمر جميل. ها قد وصلنا إلى المستشفى. هُنا سيعتنون بكِ جيدا.

وضعتها على السرير، وخرجت. إنها تجربتي الأولى بالكلام أمام فتاة بغض النظر إن كنت أكذب عليها أم لا. أعتقد أن مزاجي أصبح أفضل، وأنني بعد اليوم الأول اتصلت لألقي السلام على أهلي في تركيا، وفي نهاية اليوم الثاني، بحثت في دليل الهاتف عن رقم صديقٍ لم أخابره منذ سنتين. وفي اليوم الثالث بت أجد النكات التي يكرّرها جارنا العجوز مضحكة. علي أن أقول انني صرت أشعر بالوحدة! مرّت هذه الأيام وأنا أنتظرها. ومثلي لم يتعود على الانتظار، قد يجده قاسياً، بل حقيقةً تفاجأت بهذا الشعور الخرافي، ورأيته جميلاً. ومع يومي الرابع والخامس، أصبحتْ تجربتي بالحديث مع الفتاة كافية لتجعلني أجد نفسي قلقاً، فيما بدأت تنمو بيني وبين الانتظار علاقةٌ حميمية، ولم أعرف بماذا ستّتوج. أما في يومي السادس، فقد عرفتُ بأن علي أن أحمل كلاشينكوفاً.

 

عن محمد شبيب

محمد شبيب
كاتب سوري يدرس في كلية الإعلام, ينشر في الصحافة الالكترونية.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.