مقطع من تشكيل لرندا مداح - رصاص على ورق

مقطع من تشكيل لرندا مداح. المصدر: صفحة الفن والحرية على فيسبوك

رجوع

كمعدنٍ باردٍ بمفصّلاتٍ صدئة، أجرّ خطوي عَوداً يا حلب. فإن وصلتُ، تلقفيني، وحنّي عليّ، ولا تغلقي باب الرجاء في وجهي.

أنا على الطريق إليك، لا حِمل يثقلني سوى يأسي، ورضيعتي، وغربتينا. إن كان لا بدّ سنموت وحدةً أو جوعاً أو شوقاً أو احتجاجاً؛ فليكن على أرضك!

أعلم، لا زوج يلوّح لي بالورد عند محطة الباص، ولا أمّ تنتظرني في المطبخ، وتطفئ قلقها بتتبيل الكباب، وتخبّئ شوقها في بطون الكبب الحلبية، ولا رفاق، ولا جامعة أتذمّر من عسرة دروسها، ولا بيت. أكتفي بحطام بيتي الريفي في حلب، إمّا أتمدد جثماناً لصق جثمانه، أو أنهض فيه فأحييه ويحييني

تذكرين، مرّ عامان على يوم قصف الطيران ذاك من سمائك ، كنت في سنتي الأخيرة في دراسة الأدب الإنكليزي، أهمّ بالذهاب إلى الجامعة بعينين مكحولتين وخدَّين من هريس الورد وفستانٍ مطرّز وبطنٍ منتفخةٍ وحذاءٍ جديد. أذكر كيف جرّتني يد زوجي من بين الإسمنت الهاوي من سقف بيتنا، وعلى الطريق الغائم خلع زوجي قميصه، ومزّقه ليربط به جرح يدي النازفة، ثم يحضن بطني بيديه

ولا أعلم كيف صرنا في الشام، هناك حيث التقينا بأبي، الناجي الوحيد من عائلتي، أبي الذي مات بعد شهر، مات مشلولاً في الشام. دفنّاه بلا مراسم، وتوجهنا جنوباً إلى السويداء، على الطرق الملتوية كي لا نمرّ على الحواجز، ويحتجزوا زوجي المطلوب للخدمة العسكرية، ووصلنا وسكننا في البناية (على العظم) التي أفرغتُ فيها حمولة بطني وقروح عيني، وكل فتات المال.

وجاء العسكر يطاردون زوجي إلى هنا ليخدم العلم. فرّ منهم وأوكلني لصحبة وحدتي في هذا الكون الكبير. لم يُنهضني سوى الشتاء. انتفضت لأغلق هيكل الشبابيك بشرائح النايلون لأحمي ابنتي ونفسي من البرد ومن عيون المتطفلين على ضَعفي. أذكر أنني تدلّلتُ طويلاً بصحون السكب من طبخ الجيران وأنا نفساء، وبتلك الرسالة المطمئنة عن أخبار زوجي كيف انحشر في طابور البضائع البشرية المهربة، ونام على مخدة الحجر، ونجا من دروب الوعر والأفاعي، ومن أسلاك الشوك على الحدود. كان الحراس نائمين، وظلّ قلبه يرفرف رعباً حتى من خيانة الليل. ووصل حيّاً، وأمسكوه وزجّوه في معسكر الإقامة الجبرية الذي هيأته الحكومة الأردنية لكل العصاة الفارّين من وجه العدالة السورية، وفرّ منه إلى مخيم الزعتري. هناك صار في أمان. لا شيء يرهقه سوى ريح الشوق وبعض همومٍ تشبه العجز والعوز والغربة والرعب على زوجته وابنته الوحيدتين  في المدينة الغريبة.

واشتغلت حين تباعدت صحون الأعطيات. قبِل صاحب البناية أن أنقل حمولة سيارات البلوك في الليل من مدخل البناية إلى الطابق الثالث أو الرابع أو الخامس لقاء 500 ليرة عن كل ليل.

قساوةُ يديّ، خدوشُهما، تيبُّسهما، وقحط كوعي، وصراخ ظهري لم يؤلمني كما فعل صراخ ابنتي الرضيعة. كان يؤلمها نبتُ أسنانها، لكنها لا تضوج، تنام على ضحكةٍ، وتفيق على مثلها. وتصدّ عن فمها الصغير كل قوتٍ غير حليبي، ولا تبكي إلا عندما لا تراني لصقها.

كنت في حلب أغني القدود الحلبية. هنا لم أعد أغني، صرت آنس إلى تجويد القرآن، ثم لم يعد يتسع صدري سوى للصمت

وظلّ يدلّكني الحزن. هذا الحزن الواثق؛ يعجن طحين جلدي، ويأكل كيلو غراماً من لحمي كل أسبوع، وينفذ إلى قلبي الذي ارتأى، أخيراً، أن يستسلم كمحاربٍ واقعيّ.

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.