الصفحة الرئيسية / زوايا / بالزاوية - فادي عزام / بيوت تحزّها الرهافة ويعجز عن قطعها السكين
عبد الرزاق شبلوط - جَمعة، 1999
عبد الرزاق شبلوط - جَمعة، 1999

بيوت تحزّها الرهافة ويعجز عن قطعها السكين

عندما ترتقي قيم سمائنا سيكون لبيتي سقف.
إيلوار

ابتكر السوري مملكة حريته في بيته، لكنه ظل على الدوام رهين تلك العبارة المرعبة:
“للحيطان آذان”.
نقرأ البيت يعني أن نقرأ الألفة في البيوت.
البيت الشامي الشهير سليل البيت الأرامي، المدخل الضيق ليجبرك على الانحاء، القاعة الشاسعة المفتوحة على السماء، البحرة ونافورة الماء في الوسط، النباتات المتعرشة في الجنبات. غالبا يكون اللون الرخام بالأسود والأبيض الملكي. قراء العلامات والأدلة يرون رمزيته التاريخية كبيت يتناوب على عرشه الليل والنهار، وعلى فضيلته الخير والشر، وعلى قسمته الأنوثة والذكورة. لكنه سليل المعمار العربي الانطوائي، غياب الشرفة، صغر النوافذ، الزقاق يقود إلى اللامخرج، المعمار الدفاعي، والشساعة في الداخل المحجوبة عن الآخرين، يعبر عن إرادة الاحتفاظ بكل إناث العائلة وخصوصيتها.
كان السوري يعيش على التناقضات، بين حرية التنفس في أعشاش البيوت وسلطة القلعة السوداء الرهيبة الجاثمة على قاسيون دمشق. سلطة مستنسخة في كل المدن من العسس وصور القائد والخالد والأمل والمثل.
العائلة الحاكمة المجرمة تحتل المدينة، والسوري الحالم يحتمي من سلطة الاحتلال بالبيت.
السوري يحلم بالبيت أكثر مما يحلم بالناس، فالناس يتحولون في مجتمعات القمع إلى مشكوك بهم، وكل العلاقات ستحددها مساحات الخوف والآمان.
البيت السوري حارب بشجاعة ضد العاصفة، طوّر نفسه، تخلى عن امتيازات الجمال والمعمار، لكنه بقي من الداخل مملكة من النظافة، عظيم التكوين رغم الانحشار والاندحار، ومحلاً ضيقاً يتّسع لألف صديق.
البيت السوري صار هو مرتقى الأنفاس بعد احتلال المساجد والكنائس، ونهب المعابد وفرار إيل وآداد وأدونيس وعشتار. وحلول حافظ الأسد كإله وثني توحدي والسيد الأوحد في المدينة المحبوسة داخل قوارير سهلة الكسر كانت تسمى بيوتاً.
يسأل العاشق، أين أجد بيتا لتبادل قبلة مع الحبيبة في دمشق الملوثة بالكنايات والسجع البعثي، ومرتزقة الفضيلة وفرع الأمن الجنائي يحتل الجدران بينما العشق استعارات؟!
وسط لوثة المصاب بشقاق الخوف، المضاد لكل أنواع الحب. كانت تمارس طقوس ديونسيس في البيوت المستأجرة. واحتال المحبون على شرطة الأخلاق والعسس بالمساكنة. والغرف المنكوبة والشقق المفروشة والبيوت المثقلة بالأسى حرست العشاق.

في دمشق 
أربعة وعشرون بيتاً مستأجراً بأبواب من شتى الصنوف، بعضها يغلق بإحكام سجن، والبعض الآخر يمكن قفله بشريط سلك معدني رفيع أو إحكام إغلاقه ببلوكة!
أبواب لا رغبة لي بتذكرها الآن، وبالطبع لا أريد أن أخوض بذاكرة النوافذ في دمشق..
أهٍ من النوافذ المفتوحة لبعوضة شاردة أو ورقة شجر، فباغتتها قذيفة تائهة أوت إلى البيت وأخرجت سكانه إما إلى سماء أو إلى البحر بعد أن ضاقت بهم الأرض.
كلما فتحت نافذتي هذه الأيام أتذكر شباكاً يطل على مقبرة في قدسيا، مقبرة فقيرة على سفح تل فقير، بوابتها فقيرة ، وموتاها فقراء ، وحارسها أغتنى من بيع الجماجم لطلاب كليَّة الطب. أطل على المقبرة وأنتظر “إياد شاهين” ريثما ينتهي من عمله في معالجة الأفواه المضنكة بالألم والنخور الأبدية ليأتي ويملأ المكان برائحة ضحكاته الخارقة.
أتذكر بيت الست أم أكرم في المزة جبل، وانفتح المشهد على حائط تخترقه عيني، فأرى حقول الصبار التي جرفتها دبابات بشار الأسد وأطلقت إبرها لتنغرز في العيون والقلوب الكليلة المشرعة وراء النوافذ. بينما ناي “لؤي الحناوي”، شريكي في تلك السكنى المباركة، يرتل آيات من أسفار جلال الدين الرومي الخالدة.
وبيت في مخيم اليرموك، يشبه بيت الشاعر “وديع سعادة”، ولكن غاب عنه الشعاع، ليس بسبب غيمة على الأرجح، إنما لأن جاري القاطن في الطابق الأعلى مني يسكن تحت الأرض، بيتا عميقا كمدافن الفراعنة لا نوافذ له، تفوح روائح البنج من عيادته المختصة بالإجهاض!

بيت مفرق أبي عطاف. 
كان سفحاً من الأمنيات، نحتل السطح المجيد بثلاث غرف أقرب لأوكار الرهبان. مضادون للطائفية، نعشق ونتنشق الأحلام والنشوات، نفتك بالوقت وكأننا سنموت غداً، سوريا تعبر بنا كل يوم، ونادرا ما نبيت أنا وحمد وربيع بلا ضيف أو ضيوف.
أصدقاء يهربون إلى خلوتنا ليمارسوا طقوس التأمل والبكاء والضعف والقوة والرغبات المحرمة. من الشرفة الواسعة نرقب الغزلان بصبر الصيادين، نملأ فضاء الأمسيات بالضجيج، نعلن القيامة كل يوم، نقاوم بطالة ما بعد التخرج بالانتظار وتربية الحقد والشعر والكحول والفوائض من غوامض الغرام ولا نعرف كيف نحب.
نحيل أي حدث إلى قضية، نكبّر أي رغبة إلى أقاصيها نتمتع بخصال الأوغاد والقديسين.
بيت مفتوح للجميع، يزورنا إمام الجامع وملاحدةٌ مضحكون، مشككون ومتصوفة والكثير من الدراويش. أمهاتنا يضقن ذرعنا بماذا نفعل بالشام فيأتينَ، حاملات طناجر الطبيخ، فنخفي زجاجات العرق ونفتح كتب الدراسة على صفحات مبهمة. نمثل الطاعة، ونسبل العيون علامة الطيبة والفرح. وحين يغادرن، ننط كالسعادين طربا.
يزورنا معتقلون سابقون، وأزواج من العشاق المختلطين، وتبعث لنا سهام شركس كل شهر وليمة تكفي عشرين نازحا من الريف إلى دمشق مع آداد خضور، وتأتينا المستشرقة الألمانية الباحثة عن قاموس من الشتائم لرسالة دكتوراه فنزودها بمئتي شتيمة طازجة لا تخطر على بال.

كانت سوريا المتبرعمة التي نحلم بها تتفتح بتلاتها في بيت الدويلعة، لو أحصيت الشهقات والزفرات في ذلك البيت، لو دونت الآهات والضحكات، لو سجلت الليالي ودونت النقاشات والأحلام والألوان، لو جمعت لوحات فرز الألوان لأبي عبادة. لو فتحت سجلات أولاد القرى والمدن الذين زارونا في بيت أبي عطاف، لوجدت جبلة مع تلبيسة، عامودا مع سلمية، وحلب مع حمص، وحماة مع اللاذقية، وأدلب مع بسنادا، والقريّة مع برزة، والسويداء مع الرقة…
لقلتَ: يمكن لدنمرك أن تخوض حربا أهلية ولكن مستحيل أن يحدث هذا في سوريا!

كان بيتا جامعا مانعا للغش، ملهما بالاستقامة، وكل من فيه ترك اعوجاجه خارجا…
أين أنتم الآن يا سكان ذلك البيت. أين أنت يا عبد؟
غادر أولنا عبد الرزاق شبلوط ابن حمص إلى الإمارات. أربكنا غيابه. كان مثل النذير المرعب لكل واحد منا. فالأمل بموت الديناصور تلاشى بمجيء الوحش الأصغر لم نصدق خطاب القسم لم نكن من هواة الأحزاب وكنا مخلصين للحدس.
ونصف بيت من شعر لفظه المتنبي ذات سفر:
“بقائي شاء ليس هم ارتحالا..”
البقاء هو الذي يحملك على الرحيل، وحدا تلو آخر سلكوا طريق المطار باستقامة. معظمهم وصل إلى الإمارات. كان هاجس الخدمة في جيش النظام مرعباً ومدمراً لنا أولاً، وهاجس أن نجد رزقة تحمي ما تبقى من كرامتنا ثانيا..
تركنا البيوت بلا وداع ولا أحصنة ولا رغبات مشبوهة بالعودة، كنا نهرب ونترك البلد للآل الأسد. وكنتُ آخر المغادرين.

بيت إبراهيم صموئيل
أصنفه ضمن قوائم بيوتي الخاصة، أدّعي أنه لي، أنزل من السرفيس أول جوبر،أمشي بمحاذاة حائط كالح، أقف أمام الباب الصغير، أقرع الجرس الرخيم، صوت الخطو الخفيف تسبقه ضحكات مجلجلة ينزل من أعلى يفتح قلبه لي الباب، وترشدني ابتسامته نصعد جذلى، إلى اليمين مباشرة الصالون، أريكتان متقابلتان أجلس والاحراج يمنعني من التحرك فيكفي أن يجلس قبالتي وستكون المسافة بين قدمينا أقل من شبر، أسأل نفسي يا إلهي ماذا أفعل هنا مع هذه العائلة المحشورة في هذا البيت الشديد الضيق؟!
خلف كتفه لوحة الشغيلة لمالفا، ممزقة بشكل زاوية قائمة، خزق وكأنه صنع خصيصا كجزء منها. بضع كتب مرصوصة وستار مهفهف يفصلنا عن غرفة النوم. مداريا خجلي أقول لنفسي لن أطيل المكوث أكثر من زمن فنجان قهوة، تطبخه المرحومة ماري. فتطل من المطبخ، ينداح منها حنان العالم، تفيض حبا، تتدفق كرما.
وعلى صوتها الرخيم المغموس بحشرجات الألماس، ونفثات سيجارتها التي تتحول إلى غيمة من الرقة أرتاح وينفك حرجي قليلاً..
يحدثني إبراهيم عن عمر حمدي، وكيف أحرق كل لوحاته ونجت هذه اللوحة..
يطير الحديث حول من مرّ على هذا البيت السوري الطيني الصغير، أراه يتمدد يتسع للرفاق والأحلام والأفكار، ورويداً رويداً أجدني أتمشى في قصر إبراهيم وماري، وقد صار بيتاً يتسع لنصف سوريا، وفنجان القهوة أصبح حقلاً من البن، يفيض بنكهته على الأرواح النائمة، والدقائق تمتد حتى الآن.

مرسم عبد الرزاق. 
كان عبد الرزاق الفنان التشكيلي أول المغادرين إلى الإمارات وأول العائدين منها، رجع ليقطن في مرسمه العجيب.
تنزل في الساحة بجرمانا تدخل إلى اليمين بعد الكازية.. تسير خطوتين.. لاتسأل أحداً.. اتبع روائح اللون تدلك على الطريق.
إقرع الباب، إن لم تجد أحداً، فتحت الزريعة أو بجوار النافذة المفتاح بانتظارك.
كل شيء يأخذ معنى أخر، حتى الشيء المتخلص من كل رمزية ممكنة تراه يتلاصف بغير حقيقته أو بتعددها.
سيقودك فضولك على عكس ما هو متوقع إلى مطبخ الوقت حيث يعتصر الزمن الفائر بالارتباك، تجثم على طرفه عجوز بيضاء بعد شهيقين وزفير ستكتشف أنها متنكرة بهيئة ثلاجة بيضاء. افتح بابها وتملى هذا الفراغ الجسور.
تدهشك علب السردين، من الذي التهم كل هذه الأسماك المغموسة بالزيت اللاذع؟
من الذي نزع قرن الحرّ منها ونظفها ورتبها مصفوفةً بالعشرات؟
من يحتفظ بعلب السردين الفارغة ؟ أنت في حضرة آخر جامعي اللقى العجيبة.
قناني العرق أقل نبلاً، ولكنها بفوهاتها المشرئبة، تملأ المطبخ العجائبي بمحاجر فقدت ماءها،
من كرع هذا العرق وجدد عهد الأخوة مع العنب والشوق المقطر والألق؟
يا إله الخمر والأمر والسماء ابعث سفيرك يحصي أوجاع القناني ومسارب الماء.
الجدران مهشرة بفعل الهمس، الرقص، البكاء، التوق، الخوف، البقاء، الارتعاد إن البعاد يهشل القلب ويهشمه.
كم جدار حفّ به هذا القلب الأحمر الأخضر المتليف المنقوع بماء النقاء والزهر والعرق.
أخرج من المطبخ قبل أن تتحول إلى وليمة تفترسك التذكارات.
انتصبت وجوه على ورق هش، وجوه راسخة تحملها الهشاشة.. اللعنة عليك يا عبد؟ منذ عشرة أعوام وأنت ترسم البورتريه نفسه. كنت أسأل من أين تستمد الثقة بالإنسان بهذا السوري المخلّع مثل الصوفا الجانبية التي تفترس ظهري كلما نمت عندك؟
من أين لك هذا الحدس وأنا أرى وجوه السوريين بعد الثورة، كنت أرى لوحاتك..
كم رسمت.. كم قلت.. كم آمنت بينما كنا نطالبك أن تصبح ناضجا وتنجز معرضا..
اليوم أفهم أن اللوحة الخاصة بالحياة التي ستأتي غير قابلة للعرض. مكانها هنا في المرسم أقصد سوريا التي تحولت للوحة في الفضاء الطلق بعد تدمير البيوت وخروج كل ما فيها.

تُهندسَ الجدار بالورق الجنوني، وأنفاس من مروا من هنا وما انسفح في الأمسيات الشهية، عبق روائح نساء تركن النذالة خارجاً، ودخلن بالشقاء المناسب لتكريس هذا الجنون.
تخت على شكل زورق يصلح للأبحار لا للنوم. مشبع بالغبار والأقاويل. كلما تعدد المبحرون به صار أطهر وأخطر ومشرفاً على الغرق. وحدها الذاكرة طوق نجاة يصيح بي عبد.
الذاكرة هي ما نحن عليه اليوم.
ولأني لن اقرأ بعد أجمل من ” نور في آب ” أهمس لصديقي “الذاكرة تعتقد وبعد ذلك تتذكر”.
وكأن فيروز تجبي الكنوز، تحلج قطن الجرح تغطس “بالدوا أحمر” وتكبسه.
وبنفس المسجلة الهرمة يخرج صوت أغاني الحصاد في الذاكرة المتهدمة
“وع الأنعاش يا بوشلاش”
نساء يضئنَ حين تقطع الكهرباء، وحين تسرق سوريا لهنَ زينتهن، وحين يقصلهن الحصاد فيهربن من منجل الزمن، وحين يلمحن في يد الحطاب فأس اليأس، يتركن كل ما ليس لهن ويدخلن إلى دارهن، ليحصوا فحم القلب ” الألماس رأي الطبيعة بالفحم” وأنتن ألماس هذا الوجود يا نساء سوريا الصامدات.
ورجال ألقمت أفواههم العبوات الناسفة، ورضعوا زيت الكاز من خموش النار، يهيلون مداميك الحياة يوسعون منافذ الهواء. و”يتلوَّذون” من زخة مطر أو خطر مباغتة. ويتلون أسماء من ابتلعهم فم الغياب. وينتظرون على إيقاع تلك الترنيمة العجيبة .. يا الله ما إلنا غيرك .. يا الله.

الشعب يريد والوقت يريد والموت يريد والمرسم يعيد صدى بعيد
ياه.. وهل تتم الشام بدون مرسم ورسّام؟؟
بلا ضوء في الليل كثير العتم، تغدو الدمعة شمعة.
مرسم ٌمترع بالشموع. بعض الشموع لا تنطفئ، فهي مرسومة هناك باليد التي تشعل الحياة، تشعل الأمل، تشعل الذاكرة في صقيع المسافة، في بيوت تحزّها الرهافة ويعجز عن قطعها السكين.
بيتي الآن، لا أعرف شكله، ولا ماذا سيكون فأنا موجود في المملكة المتحدة، بيوت أصدقائي تمنحني بعضا من السكينة. وجه لؤي وجلال وحسام يحضرون لي ذلك البيت السوري الذي لا يمكن أن يتهدم.

عن فادي عزام

فادي عزام
كاتب سوري، صدر له "تحتانيات" نصوص. "سرمدة" رواية ترجمت الى الإنكليزية والألمانية والإيطالية

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.