نذير نبعة
نذير نبعة

كتيبة الحب

عندما وَصل برفقة بِضعة رجال إلى ساحة البلد، في ذلك اليوم من منتصف تمّوز، لم تكن (حْبّوس) تعرف ماذا يُريد هذا الفارس الغاضب، وما الذي يدور حقاً هناك في الساحة، لكنّها سمِعَت من الأولاد المُتقافزين هنا وهناك، بأنّ زلم البلد قد رموا لباس رؤوسهم على الأرض، وهي تعلم جيداً أنها لن تُرفع ثانية قبل الوفاء بالقَسَم، أو الموتِ دونَه.

لم تكن ليخطر على بالها قبل تلك الظهيرة، بأن ذلك الرجل “إبن الأُمراء” جاء يطلب محاربة فرنسا. (فيما سيُطلق على تلك الأيام اسم: رحلة الجنوب، والتي أشعَلت الثورة السورية الكبرى عام ١٩٢٥). لم تُفكّر حتّى أن تُناقش زوجها قرارَهُ عندما قَدِم الى البيت حاسرَ الرّأس، طالباً تجهيز زوّادة الطريق (لم يكن قد مرَّ على زواجهما اسبوعان)، لم تُجادله، فهي ابنة فلاحين، وتعلم إذا ما أُهينت كرامتهم، باعوا محاريثهم واشتروا الموت.
ودّعتهُ بخفر العروس الجديدة، وظلّت تراقب بقلب العاشقة طائرَ الموت فوق رأسه، يرافقه في الممر الترابي الذي يُفضي الى السّاحة ومنه الى الرجال، والى الثورة.

مرّ أسبوع ولا خبر عن هاني، بل جاءت الأخبار تطلبُ الفزعة مُجدّداً (كان سلطان الأطرش قد أرسل إلى جميع القرى، يطلب المَدد للمواجهة الكبيرة في معركة المزرعة بداية شهر آب).
علِمت حبوس أنّ جلوسها أمام الباب لن يطول، وأنّها لابدّ ستفعل شيئاً غير أن تترقّب عودته، ليُكملا بناء العرزال خلف البوّابة الحجرية، فقرّرت في أحد الصباحات أن تُغادر عرزال انتظارها، وتذهب لإقناع خمس عشرة امرأة تجلسن مثلها على الأبواب، بالذّهاب إلى الحرب خلف رجالهنْ.

لم تفكر بتأمين سلاح لها أو لهنّ، بل مشينَ ببساطة تحت راية حبوس البيضاء، كأنما كُنّ على يقينٍ بأنْ لا سلاحَ أمضى من قلب ملهوف، مشين كفصيلٍ مُدرّعٍ بالأشواق. ولو كان لنا أن نسمّيه لما وجدنا أفضل من: “كتيبة الحب”. إلا أنّ أحد الشيوخ اعترض طريق الكتيبة مصادفةً وصرخ مستهجناً: “لوين رايحين يا بلا عقل ؟!”

نزعت حبوس وِشاحها الأبيض (الفوطة) عن رأسها وأعطتها للشيخ قائلة: “خوذ هي وروح سِدْ ع الجاجات، نحنا رايحين نحارب مع رجالنا” ثمّ تابعت المسير شمالاً، تتقدم أفراد كتيبتها اللاتي لوّحن بدورهنّ بالوشاح الأبيض بطريقة سوف يُطلق عليها -لتسعين سنة لاحقة- اسم “بِيرَق النسوان”.

لم ينفّذ الشيخ -طبعاً- الأمر، بل ذهب خلفهنّ وقد جمع ما استطاع من الرجال والشيوخ حتى مشارف القرية باتجاه صلخد، وأعادوهن عنوةً، ولكن، مع وعدٍ بتجهيز بيرق جديد، وفزعة جديدة، ثمّ خرجوا فعلاً بعد تسعة أيام من ذهاب الشباب في البيرق الأول. عادت حبوس إلى عرزالها لتتلقّى خبر موت هاني بعد أيام من ذلك النهار، وقبل تسعين سنة كاملة من اليوم.

سالَ دمٌ كثير في تلك الشهور، واحترقت قُرىً كثيرة. هُجِرت البيادر، ويبست الكروم، وانتهت الثورة. ذَهَب المحاربون إلى المنفى، نقلوا الملح في الصحراء، وأكلوا الجراد، ثم عادوا مُجدداً إلى بيوتهم وإلى محاريثهم بعد عشر سنوات. هاني وخمس وسبعون غيره من زلم البلد لم يعودوا. وبعد عشر سنوات أُخرى،
خرجت فرنسا من البلاد كلّها وبقيت راية حبوس -بيرقها الأبيض- مطوياً داخل صندوق خشبي مُصدّف تنقله من بيت لآخر كقلبٍ بديل، تَركُن إليه كلّما هاجت الذكرى، والتهب الحنين.

تزوّجَت مرةً أُخرى، وتركت خلفها العرزال غير مكتمل (لاتزال أطلاله موجودة حتى اليوم). أنجَبَت أبناءً و أحفادًا، وبقيت كسنديانة الدّار الجليلة حتى أواخر السبعينات، ثم ماتت بهدوء ورِضى، وابتسامة صغيرة على وجهها -كما قيل- (من يدري، ربّما في لحظاتها الأخيرة فكّرت: ماذا لو لَمْ يُجبروها على الرجوع صباح ذلك اليوم!؟)ودون أن تعلم -حتماً- أن أحداً بعد تسعين عاماً سوف يكتب عنها، أو يتذكرها.

هذا النص مُهدى إلى قائد كتيبة الحب، إلى حْبُوس مْلَاعب
حَمّالة بيرق النسوان، من قرية امْتان، السويداء

عن سامر المصفي

سامر المصفي
مدوّن سوري - كتّاب دحنون

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.