الصفحة الرئيسية / تجريب / أخر طريق، أوّل درب
عبد الكريم مجدل البيك

مقطع من تشكيل - عبد الكريم مجدل البيك

أخر طريق، أوّل درب

لا يمكن للجميع المشي بنفس وضعية رأسهم، البعض يطأطئ الرأس كعادةٍ متوارثةٍ أو خوفٍ مزمنٍ من المطاردة وغالبًا تنحني الرؤوس لتترك بصقةً على الأرض، والبعض يرفعه ليعدّ النجوم أو يترك مسبّة ما، كأنه يقصد تمزيق السَّماء، والبعض ينظر للأمام دائمًا خوفًا من مباغتة القدر أو وجهٍ قد يندم على خسارة نظرةٍ منه، أو خوف رصاصةٍ من عين أحدهم أو من فوهة سلاح.

كلّ الرّصاص يسير للأمام. لا خطأ في رأس الرّصاص. الرّصاص بصاقٌ يعرف الهدف تمامًا. رصاصةٌ في القلب تقتل بسرعة، بصقةٌ في الوجه تقتل ببطء.

تختلف الطّرقات وتبتعد وتلتقي، تلتفّ و تتوازى وتختفي في نفقٍ أحيانًا، وأحيانًا تنكسر كالموج أمام جبلٍ أو تنحدر كشلال، كلّها طرقٌ وكلها تصلح للمشي البطيء والسّريع. كل الحياة طريقٌ يفضي إلى الموت، الموت البطيء والسريع.

صوت حسين نعمة “يا حريمة”، صوته طريقٌ يأخذني إلى الدّمع، يتركني في وحدتي أفكر هل كنّا قبلًا هنا، أم أنّه مجرد تشابهٍ في أمنياتي. الشارع نفسه في كل لحظةٍ، عود الثّقاب الذي يتكرّر في كل سيجارةٍ، نسمةٌ صيفيةٌ تائهةٌ في الشتاء، مقعدٌ بألف ذكرى، كلّها هنا، تمامًا، حيث يُفترض أن تكوني بين أربع طرقاتٍ لمدنٍ مررتُ بها، أحملُ ذكراكِ، أو على الأقل أحمل صوت حسين نعمة، ليذكرني أنني ما زلت وحيدًا كمزبلةٍ تحترق في الشّوارع نفسها.
أن تسير في هذه المدن، وبينما هي تتغير بسرعة قبلةٍ أفلتت منك، تبقى كما أنت، لا تتغير. هذا هاجسٌ يطارد الجميع، يُطاردني منذ أول شارعٍ سِرتهُ إلى الجامعة لكي أحافظ على لكنتي التي أُحب، ووجهي الريفي الأسمر كرغيف حنطة من سنابلٍ زرعتها يومًا وحصدها غيري حين مال الدهر.

مال الدهر!!!

ما زلت أنفخ الدّخان في الفضاء الممدود أمامي كبساطٍ ملونٍ. أضع يديَّ في جيوب البنطلون وأمشي مستهترًا بكلِ شيءٍ، أنظر في كل الاتجاهات، هي عادتي في التفكير، ولطالما كنت أخاف من التّحديق بالمحلّات على جانبي الطُرقِ، فأبصق وأنا أحاول قتل ضفدعٍ في داخلي، أو بعوضةٍ تسكن دماغي.
جودةُ الطرقاتِ تبقى في الذاكرة، لا أجمل من طريقٍ يحفظُ سرّك ولا يحفظك، كأنه عيونٌ تراقبك، يُخبّىء لك قبلاتك التائهة ونظراتك من أوّل حيرةٍ. كل المدنِ لها نفس شارع ذكرياتك، بتفاصيله التي تُثنيك عن نسيانه، بجدائل عابراته، كلّها ليست لك، كل ما فيه ليس لك، هنا تمامًا تعرف كلّ شيءٍ، حين يجنُّ الليل بغتةً وأنت تُحصي أسماء وحدتك التي تتقاطع مع شارعٍ واحدٍ في كل مدينةٍ مررت بها.

عن محمد حاج حسين

محمد حاج حسين
كاتب سوري

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.