الصفحة الرئيسية / تجريب / عتمةٌ بمقاساتٍ وتدرجاتٍ أُخرى
لوحة بعنوان "تحت ضو القمر" للإنكليزي جون غريمشو

عتمةٌ بمقاساتٍ وتدرجاتٍ أُخرى

أن تُضيءَ شمعةً في كلِّ هذا الظلام، لا يعني أنكَ قتلتَ الظُلمةْ، أنتَ فقط صنعتَ حاجزاً من أملٍ يقيكَ من ألمِ الانغماسِ في هذا الجحيمِ الأسود .

الكونُ بأكملهِ حالةٌ من العتمةِ ووجوهٍ مختلفةٍ تضيءُ وتذهبُ تباعاً، هنا عمود انارةٍ يصلحُ لمساعدتكَ مسافةً ما ثمّ يتركك وحيداً، هنا سوقٌ من الحياةِ وصخبِ الألوان وتعدّدِ الأصواتِ يمتدُ من أوّلِ انبهاركَ بهِ لخروجكَ من الذّهولِ إلى عتمةٍ بمقاساتٍ وتدرجاتٍ أُخرى.

الغُرف التي تحتوي وحدتكَ، وحدتكَ القاتلة في غرفتكَ التي تضيقُ كعتمةٍ بطيئةِ الوهجِ، ليستْ سوى ركنٍ متوازٍ في هالةٍ من اللامركزيةِ وفوضى الحياةِ والسّقمِ من كلّ شيءٍ يترككَ على حافةِ رصيفٍ ,خاوياً من كُلكَ.

هل تُطيلُ النظرَ في بركةِ ماءٍ دائماً لترى انكسارَ حُزنك ؟

هل تسمع صوتَ تأوهِ الأشجارِ خلسةً لتعرفَ أي العمرِ قضيتَ ؟

هل تمسحُ دمعَ غيمةٍ عن الزجاجِ لترى وحدتكَ في الخارجْ ؟

 قلبُكَ هالةٌ من الأسئلةِ، عُمقُ زجاجةٍ لا يمتلئ، نبضاتُكَ تتسارعُ مع موسيقا في الخلفية، تََحجبُ عنكَ خوفاً قادماً، تؤنسكَ من هولِ المجهول، نبضاتُكَ عمودُ إنارةٍ متقطّع، لا يصلحُ لشيءٍ،حتّى الخوفُ لا يبدّده النّورُ.

هل رأيتَ الموسيقا يوماً ؟

هي فقط لحظةٌ عبثيةٌ حين يتحركُ غصنٌ يُظلكَ، أو تُمسكَ يدكَ غريبةٌ  في حافلةٍ ما، هي لحظاتٌ من الرّصاصِ المتواصلِ الرّحيمْ ، قَصفٌ خَدريّ ورعشةٌ تتملّككَ، الموسيقا ليستْ سوى لحظةَ ضوءٍ متصاعدٍ، مترنٍّح، في صفيحةِ السّوادِ الّتي تُحيط بك.

ما الوحدة ؟

انقطاعٌ في خيطِ فرحٍ، دمعةٌ في موجٍ لا ينضبُ، وردةٌ أمام خريفٍ، سرابٌ في صحراءٍ، عزلةٌ في كونٍ ضيّقْ، شمعةٌ لا تَنتهي ولا تُضيء، الوحدةُ هي أن تجلسَ وتكتبَ عنها في هالةٍ من عدم .

أن تضيءَ أيّ شيءٍ، لن تُعيدَ ميتاً، وأن تَقرأ لهُ كلّ كلماتِ الأرضِ، لن تُعيدَهُ، هي فقط حسرةٌ منكَ وأنتَ تدخلُ وحدتكَ دونه.

القبرُ قدرٌ حراريٌّ متقلّبْ، لا ضوءَ يعلو ولا ضوءَ يَخفتْ، حركةٌ ناعمةٌ لحريرٍ أسوَد، ورائحةُ التّرابِ الّذي يَشِي بكلِّ الجَمَال.

لم أسمعْ يوماً عن قبرٍ ضيّقْ، القلوبُ حين تجدُ الأجوبَةَ تَفرغُ كقبرٍ جديدٍ، تستعدُّ لموتٍ بلا جناحٍ يطيرُ، بلا مجذافينِ، يعبرُ إليكَ وسطَ كلِّ هذا الظلام.

هل لمستَ الأفقَ يوماً ؟

لا أفقَ مشتركٌ بينَ الوجوهِ الّتي تَعرفُها، بعضهُم يراهُ تعرّي السّماء في لحظةِ ضَعفٍ، وبعضهُم يراهُ نشوةَ لونٍ في عناقِ المزجِ، وبعضهُم يراهُ أفقاً خدريّاً عذباً، قُبيلَ العَتمة .

لا قبرَ للشّمسِ، ولا قبرَ للقمرِ، هذا الضوءُ الذي يسمَّى نهاراً ليسَ سوى فرصةً أُخرى لتتصالحَ مع ظُلمتكَ الدّائمةْ، هذا القمرُ هالةُ ضوءٍ تؤنسُ حزنكَ ولا تمسحُ دمعكْ، دمعَ غيمةٍ، دمعَ الأشياءِِ كلّها، لا يحتاجُ زجَاجاً ليرى وحدتهُ، القمرُ يُريكَ كلَّ شيءٍ بلا ظِلّهِ الصّباحيّ الجَشعِ، مُحاربٌ في وجهِ الشِّتاءِ الذي يَمدُّ بِساطهُ الأسودَ الطَّويلَ، القَمر نزهةٌ أخرى للأفقْ،  ليرقدَ بعيداً عن قبرِ الضّوء الرّحبْ.

عن محمد حاج حسين

محمد حاج حسين
كاتب سوري

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.