الصفحة الرئيسية / تجريب / نحن دخان الحرائق التي لا ترونها

نحن دخان الحرائق التي لا ترونها

تشكيل - فاتح المدرّس 1967

1

في الطريق المحفوف بالشجر
تسقط أوراق الشجر
في الطريق إلى آخر النهر
يسقط النهر
من حافة الجبل العالي.
في الطريق إلى الخلاص
تمتد المدافن في مرمى النظر على مد السهول
في
الطريق
إلى
حيث
لا يموت
الناس
..
يموت الناس.

2

المياه مرآة السماء
تحاكيها في اختلاف اللون
وتعكس أنوار البيوت، نجوماً
على صفحة الماء الأسود في عتمة الليل
السماء
تمزقها نيران الشهب

ومياه البحر
يمزقها زبد المراكب

3

أعداؤنا جاؤوا من الجبال
بالسواطير وشُعل النار
وحرقوا البيادر والقرى.
جاؤوا من سفوح يكسوها الثلج
بفرو القنادس والخيول
ونزلوا إلى أنهارنا وحقولنا.
خرجوا من غيرانِ الحجارة والجريد
بوميض الخناجر في شمس الضحى.

ونحن ذهبنا خفافاً
كغمام الخريف
إلى الحقول البعيدة
وكواسر الأمواج

تركنا أنهارنا وقرانا
وجدّاتنا.

نحن دخان الحرائق
التي لا ترونها
خلف تلك التلال.

4

جداتنا يجلسن في الدواوين
على أبسطة القش والصوف
ويتحدثن عن نساء السهل الغربي
اللواتي خُطفن
في غارة لبني رشيد
جداتنا يوقدن النار بالسعف اليبوس
لأننا سنعود من البراري
حين تعتم السماء
تحت أهلّة لا تبين
بظباء مقيّدة على سروج الخيل
جدّاتنا الأرامل
بعد المعارك
القابلات
في ساعة المخاض
الراجعات
بجرار مذهّبة من الينابع
في كل صبيحة.
يزرعن نعناعاً
في فناء الدار
يشددن حبالاً من الليف
لكي تصعد الدوالي
ويضعن على مداخل الأزقة
طعاماً للكلاب
جدّاتنا
يلقين نظرة إلى قحط السفوح
ويصلين في الليل
لكي ينزل المطر
على زرع البساتين
وأزهار المدافن.

5

أبناؤك سقطوا في البراري
والأحراش والفلوات
خوفاً من هبوط أسقفة البيوت.
ماتوا في مياه البحار
هرباً من اللهب.
تساقطوا تحت الشمس
بانتظار أوراق العبور.
ذهبوا سيراً على الأقدام
في غابات الصندل والدردار
لأن سفوحهم صارت رماداً.
أبناؤك الذين يأكلون من عرق الجبين
الخردة وقعت من جيوبهم
حين سقطوا
فوق سحارات الخضار

6

تتفحص بعينيك طنف المعابد. تتكئ بيديك على عروق الرخام. تهرب إلى شجرة العنّاب من حميم الصيف. وإلى القناطر في اليوم المطير. لا تبين في الخرائط، ولا ترى سحب الخريف. بعيداً عن سياط النار، قريباً من زبد الموج وهدير البروق. تتابع سير الذئاب في شتائل الزل. السماء خالية من النجوم في هذه الليالي. تمر الليالي كما يمر الخنجر في الودك الطريّ. دانيةً بالأهلة والبدور وغبار المجرّات. يتقطع المشهد خلف عيدان القصب. وتهبط الأحجار إلى قاع البحيرة في الظلام العميم. وتأتي الرياح بأحمالها من فجوات الجبال.
كأنما تكسّرت ركائز الشفير في ذلك المرمى، وانزاح الكثيب على مهله دون أن تدري. كأنما أطبقت عينيك، فأطبقت عليك الوهاد… وطمرتك رمال الصحارى.

7

كبرت مع الأشجار. كانت أمي تسقيها في باحة الدار عند المغيب. صارت طويلة كعمدان النور. البعوض يحوم حولها، ويكشفه الضوء في هدأة الليل.
حين أتعب أتحول إلى شجرة. أكف عن الحراك. في أرضٍ تُحرث بالمعاول والرفوش. أستسلم لرياح الصيف التي تأتي من سهبٍ بلا عارض. أستوطن حيث أوطّن. وتأوي إلي الجوارح بصغارها.
كان هناك شجرة توت في حيّنا. وحيدةً في فلاةٍ حصيّة. خلف صفٍّ من المناشر. باديةً من آخر الكثيب. رجمناها بالحجارة في أيام العيد. وأسقطت توتاً، فصار الحصى أحمر اللون. أتذكر البقع الحمراء على ثيابنا وفوق مهد الحصى.. وأقول: هكذا كانت تنزف الأشجار… ربما كانت شجرة التوت رجلاً متعباً.

عن مصعب النميري

مصعب النميري
كاتب سوري مقيم باسطنبول، حاصل على شهادة البكالوريوس في إدارة الأعمال. له نصوص شعرية غير منشورة بعد.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.