أبو راس

بول لانديكر -طباعة عن الخشب - 1936

إلى غيث العلي.

يحدّثني إدوارد عن ضيعة يتّسم أهلها بالدناءة وسوء الطالع والإيمان بست مذاهب فلسفية يدعونها «المذاهب الستة»، تكون لديهم كما الصّحف المقدسة لدى الديانات الإبراهيمية. وبخلاف ما ذُكر وما لم ولن يذكر من شنائع أهل الضيعة وتدنّي أخلاقهم، فإن حسن تقديرهم للطعام الجيد يُحسب لهم. يزعم إدوارد أنك إن تدع قدميك تقودانك في شوارعها وأزقّتها الضيّقة ستجدُ ما لذّ وطاب مرسوماً بالريشة والألوان على واجهات حوانيتها قليلة العرض. وإن كانوا يميلون في اختيار الألوان إلى لأزرق ومشتقاته فما هذا إلا ليقينهم بأن السماء لا تُمطر ما لم يذكروها عند الشروع بتناول الطعام أو الشراب أو حتى تدخين التبغ الذي يلفّونه بأيديهم، وعلى أيديهم؛ بين الإبهام والسبابة.

“تصرّ الورقة الرقيقة صريراً يكاد لا يسمع عند احتكاك طرفيها صعوداً ونزولاً، صعوداً ونزولاً، صعوداً ونزولاً إلى أن يتجمع التبغ، الرفيع كشعر أكواز الذرة، والمفروم بحذرٍ وتأنٍّ، أسفل ومنتصف الورقة. ثم تُلف بسرعة لئلا ترتخي، وتُغلق بخيط من اللعاب وعضٍ خفيفٍ لطرفها الحر.”

يُذكر أيضاً أنهم يدخنون بشراهة النار التي ألقي إليها «حنّوش»، أحد أجدادهم. وثمّة طائفة منهم تزعم أن الذئب يومها التقطه قبل أن يلتهمه اللهب، ليحمله بين فكيه ويجري إلى الجبل البعيد. “جبل الشباب”، وفي رواية أخرى – تلفّت يميناً وشمالاً ثم همس: “جبل أبو راس” – ودفعني استهيابه الإسم إلى السؤال عن قصته، فاقترب مني حتى شعرت بلهاثه الرطب في أذني، واستطرد قائلاً:

“هو ليس جبلاً في الحقيقة؛ تلّة مرتفعة قليلاً وسط سهول القمح والشعير المحاذية لحدود الضيعة، التي قامت بدورها على سهولٍ كانت تزرع قمحاً وشعيراً وطماطم وخلافه”.

بالمناسبة، الضيعة التي أحدثك عنها تشبه ضيعتنا هذه إلى حدٍ غير مقبول!
ثم تابع حديثه “ودُعيت جبل الشباب بعد قصة «حنّوش». لأن حفنة من الشباب كانت تحمل إليه الطعام، فيأكلون ويتسامرون ويغنون طيلة الليل، ثم يعودون إلى بيوتهم قبيل ساعات الفجر الأولى كاللصوص. أصحاب هذه الرواية هم الطائفة التي حدثتك عنها سابقاً. يسخر منهم باقي أبناء الضيعة، ومن يلومهم؟. عن نفسي لا أصدق رواية الذئب والشباب هذه. أما الإسم الآخر فهو لقب المختار السابق لهذه الضيعة. ولا يجدر بي أن اذكر اسمه ولا لقبه هذا، لا أجرؤ بالأحرى. في الحقيقة لم يجرؤ أحد على ذكر اسمه وهو حي، معروف بالمختار. «المختار» فقط. وكان كبير الرأس بشكلٍ ملفت للأنظار، ومن هنا أتت التسمية الأخرى لجبل الشباب. أما باقي أهل الضيعة فلا يسمونه، ولا يكنّونه، ولا يلقّبونه ولا يعتبرونه موجوداً على الإطلاق، يتحاشون ذكره في أي حديث. حتى الأراضي المجاورة له استغنى عنها أصحابها. ولم يجرؤ أحدٌ حتى الآن على وضع يده عليها”.

أرجع رأسه إلى الوراء وأمسك كوب الشاي بيديه. أصابعه ناعمةٌ وبيضاء كأصابع الصبايا، عقَدها خلف الكوب بترتيبها المفترض، السبابة اليسرى، السبابة اليمنى، الوسطى اليسرى، الوسطى اليمنى.. “الوسطى أم الإصبع الأوسط؟ مذكر أم مؤنث؟”

بمَ تفكّر؟
-لاشيء. أصابعك، في الحقيقة. إنها جميلة حقاً. توحي بأنّك شخص لطيف وراقٍ.

قهقه ومال بظهره على الكرسي فصرَ صريراً مفاجئاً، جزع إدوارد قليلاً ثم قال: هذا الكرسي المسخوط! لم أنتبه لكونه هزازاً!

أين كُنّا؟
-أصابعك.
آه نعم. “ورثتُها عن أمي”. قال مع ابتسامةٍ لطيفة.
كانت أمي تعد الحساء في قدرٍ مُعلق فوق نار موقد من الآجر الصلب في غرفة المعيشة، قطعت البطاطس والجزر والبصل ونقعت الأرز بماءٍ دافئ، وذهبت إلى المطبخ لتحضر وعاء لحم الضأن المُتبل. مرّت هنيهة قبل أن أسمع صوت ارتطام الملعقة الخشبية بأرض المطبخ، الخشبية أيضاً. لتخرج أمي، وكأن شياطين الأرض تثور بين عينيها، ثم قالت شيئاً مبهماً عن إبرتين إذا ما حككتهما انبثقت الأشواك من تحت إبطيك، ونافورةٍ تضيء كل ليلةٍ بلون عيني حبيبة ثكلى تربو على الأربعين صيفاً. غسلت يديها بالصابون والماء البارد وأخذت تدور وتدور في مكانها صائحةً: “قُل الحق أو اصمت يا الله!”. ولك أن تتخيل ذهولي وفزعي حينها. ولك أن تتخيل انقطاع أنفاسي لحظة توقفها عن الدوران وخلعها المئزر وطويه وتعليقه على ظهر الكرسي الخشبيّ، بكلّ جديّة ووقار. ثمّ، وببساطة، فتحت باب المنزل واتّجهت بعيداً، بعيداً.. إلى جبل الشباب. حيثُ سأتّجه الآن.
إلى اللقاء، يا صديقي!

غادر إدوارد، أو هذا ما يدّعي أنه إسمه، المقهى. تاركاً إيّاي في حيرةٍ من أمري، وأمره. هذا الشاب الغريب عنّي تماماً، والذي جلس على طاولتي لأن الصدفة شاءت أن تكون الطاولة الوحيدة غير المشغولة بالكامل في المقهى الضيّق.

دقّت ساعة المقهى، الساعة الخشبيّة الكبيرة المعلقة فوق الباب، الثانية عشرة. لأتذكر أن ساعة واحدة بقيت لموعد القطار. لم أستطع مقاومة نوبة النعاس المفاجئ الذي يسبّبه الصوت الرتيب لدوران عجلات القطار فوق السكة. واستيقظت على أصوات المسافرين، والنسمة الباردة التي حملها باب المقصورة المفتوح.
عند ترجلي من الباب تعثّرت أخطأت تقدير المسافة بين درجة السلم المعدني الأخيرة والأرض؛ تعثّرت ووقعت مني الحقيبة. وكما في الأفلام الرومانسية اصطدم رأسي برأس شابةٍ ساحرة، لاتينيّة السّمرة. تأسَّفت، وتأسّفتُ، غير آسفٍ حقاً، لما حصل. ثم سألتني باهتمام زائف، محاولة شق حديثٍ للتعارف: أين كانت الوجهة السابقة لهذا القطار؟

بدون تردّد، وقبل أن أتركها والدهشة تعلو محيّاها، أجبتها بلهجةٍ حازمة: ضيعة جبل أبو راس.

عن علي مصطفى الدرزي

علي مصطفى الدرزي
شاب سوري، فقط.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.